بما أننا نعيش، هذه الأيام، أجواء رمضان، شهر الخير والعطاء والصدقات، أتمنى أن يبحث من يودّ التصدّق بنفسه عمن يستحق ممن حوله. الأقرباء أوْلى بالمعروف. لا أشكك في الجمعيات الخيرية الكثيرة في بلادنا أو غيرها. ولكن ليطمئن قلب المتصدّق، ولتذهب صدقاته إلى من يستحقها فعلاً، فليبحث بنفسه عمن يستحق، بدلاً من تكليف الآخرين بذلك.
كثيرون يتصدّقون لمن لا يعرفونهم، ولا يعرفون أحوالهم الحقيقية، ومدى حاجتهم الفعلية، بحجة أن المهم النية الصادقة فقط، وأن تلك الصدقات خرجت من ذممهم من أجل الثواب عند الله، وهذا يكفي، بغض النظر عمن وصلت إليه في النهاية. وهذه وجهة نظر، أرى أحيانا أنها تعبر عن نوعٍ من الأنانية الشخصية، غير المقصودة وغير المباشرة، فالعطاء هنا بحثا عن الثواب وحسب، لا تحسسا لحاجة الآخر أيضا، فلماذا لا تجتهد، أيها المعطي، ليكون عطاؤك في محله فعلاً؟ لماذا لا تقرن نيتك الطيبة بالبذل بقليل من الاجتهاد في البحث عمّن يستحق هذا البذل؟ هناك من يستغل النيات الطيبة لهدفٍ شرّير، ولا بد من عدم مساعدتهم في الأمر! ثم إن هناك من الإجراءات الرسمية المعقدة من بعض الجمعيات واللجان الخيرية أحيانا ما يقف أمام حاجة الأسرة المتعفّفة، فلا تستطيع الاستفادة مما تقدمه هذه الجمعيات واللجان من مساعدات.
أعرف كثيرين من المتعفّفين الذين لا يجدون قوت يومهم إلا بمشقّة، ومع هذا يرفضون الذهاب لتلك الجمعيات واللجان الخيرية لصعوبة الإجراءات، وكثرة طلبات هذه اللجان لمستندات وأوراق معينة… ما يمسّ كرامات الناس ويجرح شعورهم.
ذهبت سيدة محتاجة إلى لجنة خيرية، لكنها الآن ترفض تماما تكرار التجربة. تقول إنها كانت تلبس خاتما وإسوارة صغيرة، ذكرى من زوجها، وقاومت كثيرا إغراءات بيعهما. ولكن المشرفة على اللجنة الخيرية لاحظتهما، وقالت لها كلاما جرح إحساسها عنهما. ولماذا تأتي لطلب المساعدة، وهي ترتدي الذهب!
ليس العطاء مجرد مبلغ من المال، تتخلص منه، ولا تعرف إلى أين يذهب فقط لترضي ضميرك. هو معنى أكبر من ذلك، فحاول بلوغ المعنى كله بالبحث عن المحتاج، وتجنيبه عناء الانكسار أمامك. أعطِه وكأنك تأخذ منه. امنحه الرضا والفرح قبل المال.
العمل الخيري في بلدان الخليج العربي مشهود له عالمياً، وليس من مصلحة أحد التشكيك في مصداقية المؤسسات والجمعيات والحملات الخيرية. نعم.. نؤكد وبشدة أن الأقربين أوْلى بالمعروف، وأن في بلادنا من هو بحاجة ماسّة لمن يمد له يد العون، لكن هذا لا يعني التقليل من أهمية التبرعات للمحتاجين في الخارج أيضا.
وبدلاً من توجيه سهام النقد للحملات الخيرية، بحجة أن المتبرع لها لا يعرف أين تذهب تبرّعاته بالضبط، عليك أيها المتبرّع أن تجتهد في البحث بنفسك عمن تراه أهلاً لتبرّعك. قليل من البحث عن الأسر المتعففة حولك لا يضر. المهم أن يطمئن قلبك، وتعطي برضى وفرح، وإلا فاترك المهمة لمن تصدّى لها. لكن ترك المهمة لمن تصدّى لها، عند عجزك عنها فقط، لا يعني أن تسلم تبرّعك لمجهولين، ولا لغير مؤهلين. سدّد وقارب. توخ الحذر وانتبه. لا تقل “طلعت مني والمهم النية”، بل اجتهد أن تطلع منك فتصل لمن يستحقها بيدك مباشرة أو عبر جمعية أو حملة خيرية معتمدة، أو حتى عبر شخص موثوق به. لكن الأفضل دائما أن تبحث عنهم حولك، واذهب إليهم بنفسك. لا تساهم بتعريضهم لذلّ السؤال ممن لا يحترم كراماتهم، فهم غالبا أعزّة قهرتهم الحاجة، وعليك أن تهوّنها عليهم.
(العربي الجديد / 23 مايو 2019)