تقودنا الكلمات إلى مرتقانا الأخير. دائما كنت أتخيل الحياة على شكل قصيدةٍ غير مكتملة، وأن الموت وحده سيضع النقطة في نهاية سطرها الأخير. وربما لهذا يكتب الشعراء قصائدهم بلا نقط في نهايات الأسطر الأخيرة. تبقى القصيدة مفتوحةً بانتظار نقطتها الأخيرة المعلقة بخيطٍ رفيعٍ من الرجاء فوق بئر بلا قرار.
لست نشطة في “فيسبوك”، ولا أتابع منشوراته التي ترهقني بطولها المستفز غالبا، وذلك منذ أن انغمست في عالم “تويتر”، وتغريداته الموجزة، والتي تتركنا لخيال التفاصيل. وكان يمكن أن يمضي صباحي في زحمة العمل الصحافي الذي يتضاعف في شهر رمضان، لولا أن اقترحت علي صديقةٌ أن أقرأ المنشور الأخير للشاعر أمجد ناصر على صفحته في “فيسبوك”. قلت لها إنني سأقرأه لاحقا. ولكن تعبيرات وجهها الحزين، وهي تشير إلى المنشور، جعلتني أؤجل ما يمكن تأجيله من مهمات الصباح، لأطلع عليه. كان منشورا طويلا بما يكفي لأن يستغرقني كلي، وجميلا بما يكفي لأن أتغاضى عن نفوري من المنشورات الطويلة، وحزينا بما يكفي لأن أبكي.
هل يرثي أمجد ناصر نفسه بالنص الذي تشابكت فيه غصون الموت تحت ظلال القصيدة؟ أم يرسم ملامح شخصية روائية، يعرّف قراءه عليها، عبر توطئةٍ مثقلةٍ بأسئلة الوجود كله؟ كتب أمجد تحت عنوان “قناع محارب”: “في آخر زيارةٍ إلى طبيبي في مستشفى تشرينغ كروس في لندن. كانت صور الرنين المغناطيسي عنده. من علامات وجهه شعرتُ بنذير سوء. قال من دون تأخير: الصور الأخيرة لدماغك أظهرت للأسف تقدّماً للورم، لا حدَّ له أو احتواء، كما كنا نأمل من العلاج المزدوج الكيمو والإشعاعي… كان مساعده دكتور سليم ينظر إلى وجهي، وفي عيني مباشرة، ربما ليعرف رد فعلي. قلت: ماذا يعني ذلك؟ قال: يعني أن العلاج فشل في وجه الورم. قلت: والآن ماذا سنفعل؟ رد: بالنسبة للعلاج، لا شيء. لقد جرّبنا ما هو متوافر لدينا. وفي ما يخصني ماذا عليّ أن أفعل؟ قال: أن ترتب أوضاعك. وتكتب وصيتك”.
انخرطتُ بنشيجٍ مكتوم، عندما وصلت إلى تلك الكلمة، ولا أعرف كيف أكملت بقية النص الطويل. لكنني شعرت بكتلة الورم التي يتحدّث عنها مع طبيبه وقد تسللت إلي… إلى منطقة ما في داخلي. أحسست بها فعلا، وهي تستقر هناك. في المكان الذي لا أستطيع تحديد إحداثياته في روحي.
لم أكن، قبل قراءة النص، أعرف أن أحد أهم شعرائي المفضّلين، والذي عزّز إيماني بقصيدتي التي يصنّفها الآخرون قصيدة نثر، من دون أن يدري، كان مريضا، وإلى هذا الحد، وأنا التي أتابع مقالاته، هنا في “العربي الجديد”، بحب وشغف، من دون أي إشارةٍ إلى ما يعاني منه. لكنه ينفتح الآن في مرثيته الوجودية الهادئة، ليكتب أدق تفاصيل ما مرّ به منذ أن أخبره طبيبه بوجود كتلةٍ ثقيلةٍ في دماغه، ستودي به الى إلبيت الأخير خلال وقتٍ وجيز. يكتب أمجد الحكاية الحزينة ببراعة النثر والشعر، فيترك قارئه متأرجحا ما بين اليأس والرجاء، مستعيدا بعض ما يمكن أن يملأ الفراغ الموحش من قصائد له ولغيره. تخلّص هذا الشاعر الذي كان ماهرا دائما في التخلص من كل ما يمكن أن يثقل شعريته، وإن كان اسمه الشخصي، من وطأة الشعور بالنهاية التي يراها الطبيب، ليبدأ من جديد في رجاء الكتابة، لا باعتبارها خلاصا، ولا باعتبارها ذلك الجمال الذي لا اسم ولا مواصفات له، ولكن باعتبارها، كما يبدو، أداةً لتكثيف معنى الحياة ومعنى الموت في حالة فردية خالصة.
لا أدري إن كان أمجد ناصر، أو يحيى النعيمي، كما ذكر باسمه الحقيقي هذه المرّة، قد استحضر مرثية مالك ابن الريب نفسه، قبل أن يشرع في كتابة منشوره الفيسبوكي الطويل أم لا. لكنني فعلت للحظات، قبل أن أغادر فكرة المقارنة كلها نحو الدعاء لله وحده أن يكذب الظنون، وأن يشفي أمجد ناصر من هذا المرض، وكل مرض.. اللهم استجب، فأنت أنت الشافي المعافي.
(العربي الجديد/ 16 مايو 2019)