في العام 1997 نشرت مقالا لي عنوانه؛ “نوافذ للروح.. نوافذ لغرفتي”، حاولت فيه شرح علاقتي المعقدة مع فكرة النافذة التي حرمت منها طويلا، وظلت تلك المقالة مرجعيتي الخاصة في فهم ذلك الشغف الذي ينتابني إزاء كل نافذة أطل من خللها على ما وراءها مهما كان ذلك المنظر.
قبل أسابيع حظيت بنسخة من كتاب صدرا مترجما الى العربية مؤخرا عن دار كويتية وليدة هي دار شفق للنشر والتوزيع بعنوان؛ “نوفذ على العالم” لماتيو بيريكولي وبترجمة سيف سهيل، وكان من حسن حظي أن هذا الكتاب ساعدني ، أخيرا على تتمة ما حاولت دائما فهمه في أمر خاص به، أو كنت أحسبه كذلك قبل قراءة هذا الكتاب اللطيف.
الكتاب ينقل خمسين تجربة لخمسين كاتب من مختلف أنحاء العالم مع النافذة، ويزيد على ذلك برسمة لكل نافذة من هذه النوافذ نفذها مؤلف الكتاب في ما يشبه التشريح النفسي للإبداع الكامن ما بين الكتابة والرسم.
في تقديمه لكتابه الذي جمع فيه ما بين شهادات الكتاب الخمسين مع رسوماته لها، كتب بيريكولي يقول؛ “إنقضت عشر سنوات على اليوم الذي توقفت فيه أمام نافذة الجانب الغربي العلويولحظت شيئا ما. وأحسست بشيء ما؛ إلحاحا على أخذ المنظر معي. كنت قد أطللت من تلك النافذة مدة سبغ سنوات، يوما بعد يوم، مأخوذا بذلك النسق المتميز للمباني، وكنا الآن أنا وزوجتي على وشك مغادرةشقتنا ذات غرفة النوم الواحدة. من غير إدراك مني به، كان ذلك المنظر قد غدا أكثر صوري المتخيلة ألفة عن المدينة. لقد أمسى خاصة بي. ولن أراه ثانية على الإطلاق”.
ومن الواضح أن تلك اللحظات الموغلة في شاعرية الشجن كانت هي البداية الحقيقية لقضصة كتاب نشرت معظم نصوصه متسلسلة في الصحافة مرفقة برسم تشكيلي لكل نص منها على حدة. وأنا متأكدة أن بيريكولي لم يجد صعوبة في إقناع أولئك الكتاب الخمسين بتدوين رؤاهم عن نوافذهم الخاصة أو المفضلة، بل لعل كثيرين منهم كانوا قد كتبوا تلك النصوص مسبقا، إما كفقرات من سيرة ذاتية متوقعة او منتظرة أو حتى كتصوير سردي في إعمالهم الإبداعية، ذلك أن النافذة التي هي بريد الوصل بين المرء في بيته والعالم خارجه لا بد وأنها تمثل إحدى أكثر الأمكنة في البيت إيحاء بالغامض والمدهش والجديد أيضا.
بدت لي ترجمة الكتاب في كثير من فقراته متكلفة قليلا، وإن كان المترجم قد اجتهد في استقصاء روح النصوص بطريقة دقيقة جدا، بل أن مقدمته بدت نصا إضافيا لا يكاد الكتاب يكتمل من دونها خاصة وأنه ألقى الضوء فيها على فكرة أساسية للكتاب وهي الانتقال من الكتابة الى الرسم. وحسنا فعلا، فمن خلال تلك المقدمة الشارحة برهافة لتلك الفكرة لفت المترجم نظر قارئه المحتمل الى الرسومات التي تفوق بعضها على النصوص فعلا في التعبير عن رؤية الكاتب لنفاذته الخاصة.
يكتب التشيلي أليخاندرو زامبرا في نصه القصير جدا من ضمن النصوص الخمسين؛ ” عندما لا تتحقق الكتابة، فإنني أجلس هناك وحسب، متشرباعناصر المشهد الخلاب،هائما به. أنا متيقن من أن تلك الدقائق، تلك الساعات المهدورة ظاهريا، مفيدة على نحو ما، من أنها جوهرية بالنسبة الى عملية الكتابة..”، وانا مثل زامبرا قبل وبعد قراءتي لهذا الكتاب الجميل؛ متيقنة بفرادة وجوهرية ذلك الوقت المنقضي أمام النافذة لعملية الكتابة!
(اليمامة 13/سبتمبر 2018)