أحمد ناصر السميط/
تمثل المعرفة المدخل الرئيس لبناء الفكر والثقافة الجماهيرية والفردية، وهذا الأمر تتوارثه البشرية منذ فجر تاريخ الإنسان، فالآثار الباقية إما مادة شاهدة، أو أفكار خالدة، وفي عصرنا الحالي باتت فكرة المؤسسات العلمية والثقافية تمثل قمة الرقي البشري في تعامل مع هذا المطلب الإنساني الخالص، وغدت الدول والمنظمات تتنافس في تأسيس هذه المؤسسات وإطلاقها، وفي إطار هذا التنافس يظهر شكل تنافسي يتناول المعنى، وشكل آخر يتناول المبنى، فبين المباني الفاخرة جداً تبرز لدينا مشكلة المضامين السطحية والهشة، مما يختزل إطار المعرفة بجدران اسمنتية لا تسمن ولا تغني من جوع!
إننا بهذا العصر نقف أمام أزمة ثقافية حقيقية تتجاذب النخب الثقافية من حيث التنافس على نيل رضى هذه المؤسسات بغض النظر عن شكل المحتوى المقدم، ومن جهة أخرى تمثل أمامنا أزمة انتخاب هذه النخب من قبل تلك المؤسسات، بمعنى أن المثقف الحقيقي واقع بين طرف المحتوى المائع الذي لاقيمة حقيقية له، وبين منظور تلك المؤسسات له، وهنا تترجح لدينا صورة المثقف المأجور الذي يقدم مواضيعه في سياق ما يطلبه المستمعون، ويسعى أن يؤمن الحضور الجماهيري لهذه المؤسسات التي لا تبالي بعمق المعاني والمضامين المقدمة، والخاسر هو ذلك المثقف المتخصص الذي يسعى لبناء معرفي حقيقي بعيداً عن ضوضاء الزخم الإعلامي والمؤسسات الإسمنتية، والخاسر الأكبر لا شك إنها مجتمعاتنا التي تتعطش للطرح الثقافي النوعي والمتميز.
نعيش اليوم مرحلة مميزة من مراحل النهوض المؤسسي للعمل الثقافي محلياً وعربياً، والمتابع يشاهد ذلك الأمر بوضوح، ولكن هذه المؤسسات تخضع بشكل كبير جداً لاعتبارات التصنيف والتوجهات، علاوة إلى المحسوبيات كما أن بعض هذه المؤسسات أصبحت مظلة للفساد المستشري في عالمنا العربي، ونحن نفتقد في هذا الزخم حقيقة توفر الفرصة للمتميزين من رجال ونساء العالم العربي في المجال الثقافي، والتحدي الذي يفرض نفسه هو أن يفرض أولئك المميزون أنفسهم في بيئة مليئة بالتحديات، هو أمر يتطلب الكثير إن لم يكن لديه من يشفع له عند تلك المؤسسات.
في نهاية المطاف يجب أن نرى بعين مبصرة أن الحياة الثقافية لا تنتهي على عتبات هذه المؤسسات، ولكن وجودها مهم ومفيد جداً، والدعوة موصولة لجميع الأطراف من مؤسسات وأفراد للتحرك الجاد باتجاه خدمة المعرفة بشكل حقيقي، ومن المؤكد أن هناك من المؤسسات التي تتميز في جودة المادة المطروحة، والجودة المؤسسية كذلك، ويقابل ذلك نوعيات مميزة من المثقفين يستحقون أن يمنحون فرصة أكبر في مؤسساتنا المختلفة لكي نرقى بهم في المحتوى المقدم، ولعل هذه الإشارة تنبيه للمؤسسات التي اختلط عليها الدور الثقافي بالدور الإعلامي الدعائي بان ينتبهون لحقيقة الدور المناط بهم ويسهمون بشكل واقعي في سبيل عمل ثقافي جاد ومتكامل.
ودمتم بود