الرئيسية / وداع / رثاء.. مكرّر لأمجد ناصر

رثاء.. مكرّر لأمجد ناصر

نشرت، قبل نحو ستة أشهر، مقالة، هنا في هذه المساحة في “العربي الجديد”، عن الشاعر أمجد ناصر ،عنوانها؛ “أمجد ناصر وقناع المحارب”. يومها، كان الشاعر يذهب حثيثا في رحلته إلى النهاية، كما وشت بذلك كتاباته ومقالاته. وعلى الرغم من أنني لم أكن أريد أن يطّلع أمجد على مقالتي عنه، حتى لا يشعر أنها نوع من الرثاء المبكر، وأن عواطفي فيها تجاهه ليست سوى نوعٍ من تعاطف الأصحّاء مع المرضى الذاهبين إلى موتهم الأكيد، كما يقول الأطباء، وخصوصا أنه كان يستشعر قرب أجله، ويراوح ذهابا وإيابا من بيته إلى المستشفى، إلا أنه، كما يبدو، اطلع عليها فعلا، على الرغم من أنني لم أعرف ماذا كان شعوره نحوها ونحوي، وهو الذي يعرفني جيدا. لم أسأله ولم أكن أريد أن أعرف.
أخبرني زميل يومها أنني أخطأت بتوقيت نشر تلك المقالة الحزينة والمبلّلة بدموعي، وخصوصا أنها نشرت في المكان نفسه الذي ينشر فيه الشاعر مقالاته، وأنني كان يجب علي أن أتمهل قليلا قبل نشرها؟ أتمهل؟ حتى يموت مثلا؟ مثلا. .. قاسية هي الكلمات التي تواجهنا مع نياتنا، وتجعلنا نعترف بها، لكنها، في الوقت نفسه، ضرورية جدا ضرورة الحياة نفسها.
لا أعرف ماذا تفعل بنا الكتابة، غير أنها تشفينا من أمراضنا كلها، الحقيقية والمختلسة، وأننا ونحن نمضى إليها بكامل إرادتنا ورغبتنا وقوتنا ووهننا أيضا، نعترف لأنفسنا أنها قادرةٌ على إخراجنا مما نحن فيه على الأقل. هكذا أذهب إليها كلما شعرت بالفرح أو بالحزن أو بالقوة أو بالضعف أو بالحياة أو بالموت.. وفي حالتي، عندما ذهبت إلى كتابة مقالة عن شاعر برهافة أمجد ناصر، وهو يعيش أيامه الأخيرة، لم أكن أريد أن أتداوى، بقدر ما كنت أريد أن أعرف شيئا من سر الموت الذي يداهم الشاعر، فيجعله يحاول البدء مجدّدا.. منذ الكلمة الأولى، والبيت الأول، منذ القصيدة الأولى والديوان الأول. وهكذا فعل أمجد، كما يبدو، وهو يقاوم أوجاع الجسد الواهن تحت وطأة المرض بالكلمات وبالشجن.
كتبت في ذلك المقال إن “الكلمات تقودنا إلى مرتقانا الأخير. دائما كنت أتخيّل الحياة على شكل قصيدةٍ غير مكتملة، وأن الموت وحده سيضع النقطة في نهاية سطرها الأخير. وربما لهذا يكتب الشعراء قصائدهم بلا نقط في نهايات الأسطر الأخيرة. تبقى القصيدة مفتوحةً بانتظار نقطتها الأخيرة المعلقة بخيطٍ رفيعٍ من الرجاء فوق بئر بلا قرار”. وها هي النقطة الأخيرة قد لاحت في طرف السطر الأخير من حياة الشاعر الكبير. ولكن القصيدة على الأقل بقيت مفتوحةً على أفق لا متناهٍ من الكلمات والصور والموسيقى، وكل شيء يمكن أن يكون مادةً حقيقيةً لحياة شاعر حقيقي.
رحل أمجد ناصر في نهاية الأمر، بعد أن نزع قناع المحارب الذي اكتشف أنه لم يكن أبدا بحاجةٍ إليه، هو المنتصر دائما عبر النص، والمتعالي أبدا على الهزيمة كما يريدها له الآخرون. رحل بعد أن كتب مرثيته الوجودية الهادئة لنفسه، وربما لجيلٍ من الشعراء الغرباء، واطلع على بعض مراثي أصدقائه ومحبيه، وبعد أن تأكّد تماما أن قصيدته لن تموت معه، ذلك أن القصائد لا تموت، حتى لو مات شعراؤها، وبعد أن نجح تماما في التلاشي داخل تلك القصيدة، حتى انمحى اسمه الشخصي فيها، ولم يعد يعنيه سوى أن تكون هي بالذات هوية وجوده على هذه الحياة، وأثره الباقي فيها، بعد أن يصل الجسد إلى فنائه الأخير.
( العربي الجديد/ 7 نوفمبر 2019)

عن Saadiah

شاهد أيضاً

موت صحافي حر

رحم الله الزميل الكبير، الخلوق، المبتسم، الهادئ، المهني، دمث الأخلاق، السهل الممتنع، الخبير بحرفته، العالي …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *