الرئيسية / سينما / فلايت بلان: خطة الطيران بين الشك واليقين.. ومع الامومة

فلايت بلان: خطة الطيران بين الشك واليقين.. ومع الامومة

فجأة تجد نفسك في دائرة ضيقة جدا لا يصدقك فيما تقول أي أحد ممن حولك على الاطلاق، لكنك تعرف تماما ما تقول، وتدرك انه الحقيقة. الا انها ليست كذلك لمن هم في الدائرة تتقاسم معهم كل الاحتمالات المترتبة على ما تسميه أنت الحقيقة ويسمونه الوهم.

يخالجك قليلا ولماما شيء من الشك بنفسك وبما تقول، لكنه سرعان من يتلاشى كدخان في الهواء عندما تبرز الحقيقة التي يتفق عليها الجميع.. الحقيقة عندما يكون امسها “الامومة”.

هذه هي رؤيتي الاولى لفيلم فلايت بلان  أو خطة الطيران والذي استمر طويلا في شاشات الفن السابع العام 2005 قبل ان تتلقفه التلفزيونات ووسائل العرض المنزلي لاحقا كدراما انسانية محتشدة بالاثارة والشجن والخيانة والخداع واليقين و.. الامومة أولا وأخيرا.

انها قصة مهندسة الطيران الامريكية كيل والتي تقوم بدورها  جودي فوستر في رحلتها من مطار فرانكفورت الى مطار نيويورك بصحبة ابنتها ذات السنة أعوام، وتابوت زوجها المتوفي حديثا!

يقبع الميت في تابوبته المسجى في قسم البضائع والشحن في طائرة الجامبو الضخمة، بينما تجد كيل مقعدها مكانا مناسبا لأخذ قسط من النوم والراحة جراء الحزن على زوجها، فتنام محتضة صغيرتها ، وما ان تصحو حتى تجد نفسها وتجد أحزانها ولكنها لا تجد صغيرتها..

أين ذهبت الصغيرة؟

تبحث الام عنها في البداية بهدوء المتيقن من وجودها في طائرة معلقة بين السماء والارض حيث لا احتمال لوجودها خارجها. لكن ذلك الهدوء يتلاشى تدريجيا بعد كل دقيقة تمر ولا تجد فيها الصغيرة. يتشارك معظم طاقم الطائرة في البحث عن الطفلة المفقودة قبل ان تتحول الانظار كلها الى الام المفجوعة بزوجها.. ثم بفقدان ابنتها.

الصغيرة لم تكن معك عندما صعدت الى الطائرة يا كيل، تقول عيونهم ذلك قبل ان تسمعها منهم صراحة. ولأنهم يملكون أدلتهم من قوائم المسافرين وعدم وجود اي من المسافرين قد رأى الصغيرة في الطائرة فإنهم ينجحون في تشكيكنا نحن المشاهدين بكل القصة التي نجد انفسنا في خضمها تعاطفا مع الام المسكينة.

لعلها فقدت عقلها، او ربما تعيش تحت وطأة تهيؤات ساهم فيها انتحار زوجها المفاجئ، والا فأين الصغيرة، وما المصلحة من أخفائها؟

لكن الام لا تخضع لهذا المنطق البارد في تفسير الامور ولا تركن اليه حتى وهو يقدم اليها على طبق من التعاطفف المتوقع في مثل هذه الحالات.

تقرر ان تستغل معرفتها كمهندسة طيران في البحث عن ابنتها بنفسها بين دقائق الطائرة المعقدة.

ينجح المخرج الالماني روبرت شفنتكي في تصوير تفاصيل تلك الطائرة بشكل يوحي لنا باتساعها وضخامتها التي لا يمكن تخيلها من قبل المسافرين على متنها وليس من قبل المشاهدين وحسب.

تتحرك الام التي تحولت الى كائن مختلف تماما عن بقية كائنات الطائرة من مسافرين ومضيفين وقبطان ومساعد ورجال أمن. فهي وحدها تملك الحقيقة التي لا يريد احد من هؤلاء تصديقها. وهي وحدها من يهمها أمر إثبات هذه الحقيقة أخيرا.

تتحول عدسات الكاميرا الى عيون سحرية واسعة لتضعنا في المشهد البانورامي الواسع، فيتضاعف احساسنا بالضخامة ونحن نتابع حركات جودي فوستر الرشيقة وهي تتنقل بين المكائن والالات والفتحات السرية للطائرة التي تعرفها جيدا بحكم وظيفتها كمهندسة طيران. وعلى الرغم من اتساع الطائرة الا ان حركات الكاميرا التي تصطدم بالأسطح والابواب وجدرات الممرات والكراسي والانانبيب والخزائن.. تكاد تطبق على أنفاسنا وتشعرنا بالحيز الذي مهما بلغ من اتساعه الا انه في النهاية حيز لا يمكن اختراقه او الخروج عليه او اللعب خارج نصوصه. فهو حيز محدد لجسم حديدي طائر في الفضاء.

يتآمر الجميع من حيث لا يدري أغلبهم، على خذلان تلك الام الشجاعة والاستثنائية في في شجاعتها وسرعة بديهتها ومعرفتها، والتقليدية في أمومتها. وكلما تعزز ذلك الخذلان تضاعفت رغبتها في البحث، وقدرتها عليه.

وحتى عندما خالجتها لحظات شك انسانية، سرعان ما نفضها وجع الذكرى الطازجة، حيث يرتسم على زجاج النافذة المطلوة ببخار انفاسها الحارة قلب حب تجيد صغيرتها رسمه على هذا النحو. هي موجودة إذن. وقد ركبت معها في الطائرة، وهي مختفية الان، وحتما هي بحاجة اليها حيث لا تدري بأي ظرف تعيش.

تجدها في النهاية في سياق مؤثر ومثير جدا، وحافل بالعواطف والحماسة العالية، وتجد معها بعض الحقائق الأخرى والتي فسرت لها كل ما حصل. فزوجها لم ينتحر بل قتله ضابط الامن في الطائرة، والطفلة لم تختف بالصدفة بل اختطفت من قبل ذلك الضابط المقيت، والقضية كبيرة ومعقدة ككل القضايا التي يتحالف فيها المال مع السلطة ضد بشرية البشر.

ورغم ان المخرج الالماني البارع نجح تماما في تقيدم فيلم سينمائي حافل بالاثارة الراقية الا انه لم يكن لينجح في مهمته على هذا النحو الذي اعجب الجمهور كثيرا لولا مساندة ممثلة بحجم جودي فوستر. فقد أدت دورها برشاقة معنوية وأخرى جسدية ، كما أنها برعت في تقديم تحولاتها النفسية من خلال تعبيرات الوجه وطبقات الصوت وتحركات العينين، مما جعلنا نتغاضى أحيانا عن بعض هنات الفيلم مثل منطقية الهدف البعيد لعملية الخطف نفسها ، وصدفة ان تكون الام مهندسة طيران تعرف تفاصيل بناء هذا النوع من الطائرات تحديدا بحيث تتجول فيها كما لو انها تتجول في بيتها مثلا.

وعلى الرغم ان انشغالنا جميعا بتلك الحكاية المثيرة للفيلم الا ان هذا لا يمنع من الالتفات لبعض الحكايات الأخى التي تتابعت على هامش المشاهد الرئيسية وتضافرت معها لتقدم لنا رؤية حضارية راقية لعالم الغرب ما بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر. فعندما صور الفيلم كانت تلك الاحداث ما زالت طازجة وتلقي بظلال من الشك على كل عربي مسلم يعيش في الغرب، فما بالك بمكن يكون ضمن ركاب تلك الطائرة مع بعض صحابه التي تدل ملامحهم ولغتهم على شرق أوسطيتهم؟

تتركز أنظار الشك كلها إذن تقريبا عليهم ليكونوا منذ البداية هم الجاني المحتمل ، ان كان ثمة جان، وعندما تتضح براءتهم في النهاية يكون الفيلم قد ساهم في تبديد تلك الصورة النمطية الظالمة لكل عربي مسلم في أوربا ويقدمه ككائن بشري متفهم للحاجات الانسانية للبشر الآخرين ربما أكثر من غيره أحيانا.

عن Saadiah

شاهد أيضاً

ذي ريدر..امرأة عارية وأحبها!

  امرأة ثلاثينية عارية يحتل جسدها بأنوثته الباذخة مساحة الشاشة بأكملها، وتاريخ نازي أسود تسيل …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *