29 أبريل 2016 / من قال أننا نستطيع مغادرة اكتشافتنا الأولى بسهولة؟
من قال أننا نريد ذلك دائما؟
تتربص بنا ذكرياتنا مع كل اكتشاف جديد لتعيدناإليها بذات الدهشة والنكهة والشعور والقلق والفرح والحزن. نلتفت تلك الالتفاتة المفاجئة الى الوراء بينما نحن نمشي إلى الأمام فنرى كل شيء بذلك الوضوح الذي لا ينكشف كله لأول وهلة بل يتوارى وراء الكلمات الكامنة، نكتبها فنكتشف أن لا شيء يضيع !
أستطيع بسهولة أن أفسر ذلك الشعور بالذنب المندغم باللذة الذي يتلبسني تماما كلما قرأت نصاً أسطورياً من أساطير الإغريق.
أستطيع أن أعرف سبب الرعشات الخفية التي تنتابني كلما وقعت على قصة من قصص فينوس أو زيوس أو هيرقل أو ميداس أو غيرها من قصص أبطالي الساحرين الذين عشت معهم زمنا في مراهقتي بسرية تامة. لكنني لا أتذكر كيف وقع بين يدي وأنا لم أغادر الثالثة عشرة بعد من عمري كتاب عنوانه “أساطير الحب والجمال عند الإغريق”، والغريب أن ذاكرتي البصرية ما زالت تحتفظ بشكل الغلاف والكلمات المكتوبة عليه ؛ دار الهلال، دريني خشبة، عشرة قروش!
بأي وعي تلقيت حكايات الأساطير الأولى؟ لا أعرف تماما لكنني ما زلت متعلقة بمآلات أبطالي الساحرين وما زالت غرائب ذلك العالم الذي انفتح أمامي بين دفتي كتاب تثير في الكثير من الأسئلة حول الوجود كله!
في حكايات آلهة الأولمب وشهواتهم البشرية التي أنزلتهم من علاهم، وفقا لتلك الأساطير، إلى واقع البشر وتطلعاتهم الفطرية إلى السماء.
كنت أقرأ تلك القصص الغارقة في بذخ اللذائذ المحرمة ما بين البشر والآلهة فيدق قلبي هلعا مما أقرأ، تتزلزل قناعاتي الصغيرة بكل ما تعلمته حتى ذلك الوقت لكنني لا أتوقف عن تتبع مصير برسفونية ولا سر مقتل بروكرس ولا قصة هرقل المكلل بجلال البطولات الخارقة لكل ثوابتي. أما فينوس فكانت بحق إلهة الحب والجمال والتكامل الأنثوي في صورته المتخيلة. لطالما رسمتها في كراسة الرسم بألواني الشينية ممهورة بتوقيعي المتباهي ثم اقتطع الورقة من الكراسة قبل أن تراها معلمة التربية الفنية فينكشف سري اللذيذ مع القراءة المحرمة والتي كانت تتماهى أحيانا مع طفولتي اليابسة فتصير جزءا منها. أراني أسير في موكب باخوس تحيطني ربات الأولمبالصغيرات بثيابهن البيضاء المنسدلة كأجنحة نائمة، فتتكون كلماتي على الورق صورة لأناقة كاتب تلك الأساطير أو مترجمها إلى العربية أو مستحضرها من فضاء الميثيولوجيا لتعوضني عن كل نقص أستشعره حولي.
سنة كاملة عشتها مع كتاب واحد أقرأه وكأنه منشور سري ثم أعيد قراءته حتى أصل إلى حكايتي المفضلة فيه، عندما أقدم بروميثيوس على سرقة قبس من نار الأولمب الموقدة ليهديها إلى البشر الذين كانوا يعيشون في البرد والظلام مقابل دفء آلهة الأولمب وأنوارهم المشعة. في تلك الحكاية يبلغ ولعي بالكتاب مداه وأبدأ بتخيل كل شيء في ما أعرف من الحياة لو لم ينجح بروميثيوس في سرقة ذلك القبس الناري المشع.
في حصص التربية الإسلامية حول الجنة والنار استحضر أسطورة بروميثيوس التي لم تكن في وجداني الغر مجرد أسطورة بديعة، فأبدأ في عقد مقارنات حقيقية بين الديانات وقصص الخلق فيها، وأنا أقاوم الشعور بالذنب وكأنني أرتكب حراماً حتماً سيودي بي في نهاية الأمر إلى نار الله الموقدة.
بقي ذلك الشعور حاضرا في كل قراءاتي الأسطورية التي تعدت كتاب دريني خشبة الساحر فعلا من دون أن تتجاوزه، لاحقاً وبقيت مرجعيتي الأسطورية ما احتفظت به ذاكرتي من ذلك الكتاب القديم.
قبل نصف ساعة وأنا أتصفح مكتبة إلكترونية بحثاً عن كتاب آخر وقعت عيني على لذتي الأولى في القراءة السرية التي تشكلت على هيئة كتاب؛ الغلاف ذاته احتل شاشة الآيباد أمامي بنفس الكلمات؛ أساطير الحب والجمال عند الإغريق، دريني خشبة، دار الهلال، عشرة قروش.
خوفي وحده على قدسية شعوري الأول باللذة المحرمة هو وحده ما جعلني أقاوم فكرة تحميل النسخة الإلكترونية من الكتاب الذي غادرته قبل عقود من الزمان لكنه لم يغادرني حتى الآن.. أغمضت عيني وأغلقت الموقع. وبدأت أكتب!
(أثير)
وعلى ما يبدو فإن قبس بروميثيوس قد قادك للقبس!.
ذكرتيني بذاك الشاب الصغير الذي كان آخر الحالمين.. كان في كل ليله يسرج مخيلته و يقرأ، ويقرأ، ويقرأ؛ وينام ولا ينام!.