لا يحتاج الكاتب بوصلةً، حينما يضرب عصاه بخضم التيه في أي م ساحةٍ بيضاء للكتابة أمامه. لا يحتاج سوى موهبته وحدسه، حتى وإن كان متيقنا، في النهاية، أنه يمشي في أرضٍ لا نهاية له ا، أعزل إلا من كلماته، لا ينتظره سوى المجهول الذي ربما يودي به إلى الهلاك الحتمي.
قد تصادفه في ذلك التيه العظيم أحيانا واحةٌ منسيةٌ، وربما بئر ماء يتيمة، أو طريق آهل بالألفة، أو سرب طيور تحلق بفرح، قبل أن تحط على بقعة حياة قريبة، أو حتى قافلةٌ مستعدةٌ لكل الاحتمالات الممكنة.. لكن هذا دائما يحدث بالمصادفة البحتة، والكاتب المبدع وحده من يستطيع الاستفادة من المصادفات البحتة، من دون أن يفسد عفويتها، أو يعيد توجيه طريق كلماته نحو جملته الأخيرة، وفقا لحسابات تلك المصادفة، فليس من مهمات الكاتب الحقيقي البحث عن مصادفاتٍ كهذه، مهما كانت مغريةً، في ما تؤدي إليه من تحولاتٍ على طريق الجمال، ذلك أن المصادفات لا تكون مصادفات إن وجدها المرء وهو يبحث عنها!
لا أدّعي أنني عرفت أسرار الكتابة، لكنني على الأقل حاولت، في كل مرةٍ أناوش فيها كلماتي الجديدة، أن ألاحظها، وهي تحلق حولي، قبل أن تحط في محطتها الأخيرة بين يدي. وعلى الرغم من أنني لم أنجح في تلك المحاولات الدائمة، إلا أنني احتفظت على الأقل بشغفي فيها، وأنا أكتب دائما، ومن بين ثغرات التجارب الشخصية الكثيرة، شعرا ونثرا، عرفت إلى حد اليقين أن عدوي في الكتابة الوضوح وخصمي المباشرة.. ولعلهما من أفضل أعداء الكاتب فعلا، فمن خلال عداوتي لهما تعلمت حيلا سرية صغيرة لتجنبهما، حتى وإن عرّضني ذلك لمخاطر سوء الفهم، والكثير من الالتباسات أمام القراء. وهكذا فضلت دائما أن أكتب عن المعاني الغامضة التي أريد تمريرها إلى القارئ، بدلا من الكتابة السهلة والمغرية والمريحة عن المعاني الواضحة أو المباشرة، والتي لا تكاد تكلفني إلا الوقت الذي أقضيه في تدوينها على الورقة، أو على الشاشة أمامي.
في المقابل، كنت عندما أضطر أحيانا لذلك، أقف موقف العاجز الغبي الذي لا يعرف من أين يبدأ ومتى ينتهي وأين، حتى وهو قد بدأ وانتهى فعلا. جرّبت هذا أكثر من مرة، خصوصا في الكتابات الصحفية المنوعة، وجرّبت طريقتي الأثيرة أيضا. وفي استطاعتي الآن أن أرصد الملاحظات عن التجربة في كل ما كتبته وكتبت عنه؛ معارض ولوحات تشكيلية، مسرحيات وأفلام ومسلسلات وأغنيات، كتب ودواوين وروايات، رحلات واكتشافات واستطلاعات، وجوه كثيرة ومشاعر أكثر وذكريات أيضا. لا شيء كالغموض يمكن أن يحفّزني على تجويد طرائقي في الكتابة، ويقودني نحو البحث عن مزيدٍ منها أيضا، فمع كل نهاية مشروعاتٍ بداياتٌ جديدة، ومع كل نقطة أخيرة ختاما لآخر جملةٍ في نص ما، يلوح أمامي عنوان في الغيب.
أحاول من خلال الكلمات أن أفسر ما خفي وراء الألوان أو العبارات أو النظرات والأصوات.. وربما ساعدتني الظروف لكي أباشر في الكتابة كمن يحاول إعادة ما يراه ويعيشه، عبر كلماته وحدها..
لا أظن أنني نجحت في كل المحاولات التي تصديت لها بالتأكيد، لكنني أستطيع على الأقل أن أؤكد فشلي دائما في كل محاولاتي على الطرف الآخر، حيث الوضوح سيد الموقف، فلا مجال لأي تفسيراتٍ محتملةٍ جديدة، ولا لأي معانٍ كامنة في المجهول، ولا وجود لما يشجّعنا على البحث عن شمعةٍ تنير الفضاء تحت شمسٍ يملأ ضوؤها الآفاق. حتى مقالي هذا.. أصل إلى ختامه الآن، وأعيد قراءته لأكتشف أنه مجرّد تدريب أولي على فكرةٍ لعلي أستطيع تدوينها لاحقا في مقالٍ أو في قصيدةٍ أو حتى في كتاب.. من يدري؟
شاهد أيضاً
هل سأنجو هذه المرّة أيضاً؟
سعدية مفرح/ تنقذني الكتابة، ولو مؤقتاً، من الغرق في لجة الكآبة ومجاهيل الاكتئاب. فمنذ أن …