الرئيسية / مقالات سعدية مفرح / مرض ومرضى الشهادات

مرض ومرضى الشهادات

26 يوليو 201/ قبل سنواتٍ قليلة، كنت أحضر ندوة أكاديمية أدبية مفتوحة مهمة في جامعة الكويت، حاضر فيها نخبة من أساتذة الجامعة آنذاك، وبعد أن فُتح باب النقاش في ختامها أمام جميع الحضور، شاركت بمداخلةٍ سريعةٍ وعفويةٍ عن الموضوع المطروح، والذي لم أعد أتذكّره الآن. ويبدو أن مداخلتي نالت استحسان الشخص الذي كان يجلس بجانبي في مقاعد الجمهور، أو هكذا بدا لي لحظتها، فما أن جلست في مقعدي، بعد انتهاء المداخلة، حتى التفت نحوي مبتسما باستحسانٍ باد.
بعد نهاية الندوة، وعند خروجنا من القاعة، تقدّم نحوي الشخص نفسه، وأثنى على مداخلتي مرة أخرى ثناء مبالغا فيه، مستخدما في مخاطبتي لقب “دكتورة”، فشكرته، وقلت له إنني لست دكتورة، فرد عليّ بأسى مبالغ فيه أيضا: يا خسارة!
ولأنني لم أعلق، هذه المرة، بشيء، فقد سارع إلى تقديم نفسه لي بصفته بروفيسورا عربيا مقيما في الكويت، يحمل أكثر من شهادة دكتوراه في الأدب، لكنه لا يعمل في جامعة الكويت، بل يدير مؤسسة استشارية خاصة لمساعدة الطلبة والباحثين في مراحل الدراسات العليا، كما أخبرني، وتبادلنا بطاقات التعارف الصغيرة. وهكذا انتهى الأمر، أو ظننته انتهى، حتى جاءني منه اتصال بعد أيام قليلة، أعاد فيه الثناء على تلك المداخلة العابرة مرة ثالثة، قبل أن يسألني: لماذا لست دكتورة؟ أخبرته أن الأمر عادي جدا، فلم تكن جامعة الكويت التي تخرّجت منها تقدم برامج للدراسات العليا يومها، ولم تكن الظروف بعد تخرّجي من الجامعة تسمح لي باستئناف الدراسة خارج الكويت، ثم إنني لا أملك ما يكفي من الشغف بالعملية الأكاديمية والتدريس في الجامعة، خصوصا بعد أن انهمكت في مهنتي الصحافية، فلم أعد أرغب، حتى لو توفرت الظروف المناسبة باستئناف الدراسة، مع اقتناعي بأن باب العلم يبقى مفتوحا دائما، ومن يدري؟.. ربما أفكر في استئناف الدراسة يوما ما.
ويبدو أنه لم يقتنع بكلامي، أو ربما لم يهتم إلا بالعبارة الأخيرة منه، لأنه سرعان ما قدم لي عرضا “مغريا”، بالحصول على الماجستير والدكتوراه، مع بعضهما بعضا، وخلال ثلاثة شهور فقط، ومن جامعة أجنبية، ومن دون تجشّم عناء السفر حتى.
عرض عليّ الأمر، وكأنه يعرض عليّ نشر مقالة، ببساطة ومباشرة ووضوح، ومن دون أي شعور بأنه يفعل أمرا غير مشروع مثلا.
ثلاثة شهور فقط؟ يا للهول، لا بد أنك تمزح، يا دكتور؟ قلت له مستغربةً ذلك العرض الغريب، لكنه لم يكن يمزح أبدا، فقد استرسل في ذكر التفاصيل، وأسماء الجامعات المتوفرة، والتخصصات المقترحة، والمبالغ المالية المطلوبة لإتمام الصفقة، وأنه مستعدٌّ أن يقبل المبلغ على أقساط شهرية، وأنه فعلها دائما بنجاحٍ مع كثيرين من بلادٍ عربيةٍ مختلفة، وأن العملية غير مجرّمة، بل هي قانونية تماما، ولا غبار عليها، وأنه يتحدى أي جهةٍ يمكنها أن تجرّم ما يقوم به و.. و.. و… حتى أغلقت الهاتف في وجهه، وأنا أشعر بالقرف.
تذكّرت الموقف هذه الأيام التي تعيش فيها الكويت قضية الشهادات المزورة، والتي تجاوزت محيطها الأكاديمي المفترض، لتشغل الرأي العام الكويتي كله، نظراً لحجم القضية وأعداد المتهمين فيها حتى الآن، والتي تتزايد كل يوم بتقدّم التحقيق مع المتهم الأساسي، وهو موظف في وزارة التربية والتعليم العالي، اعتاد التصديق رسميا على شهاداتٍ جامعيةٍ، بدرجات مختلفة مزورة أو وهمية.
لا أضع كل الذين سقطوا ضحايا وهمهم الشخصي بالحصول على شهاداتٍ من دون بذل أي جهد حقيقي مقابلها، في سلة واحدة، فهناك منهم من تعرّض لخديعة دقيقة كما يبدو، ظن من خلالها أنه يدرس في جامعة حقيقية، وإن كان ذلك في النهاية لا يعفيه من المسؤولية، إلا أن المسؤولية مضاعفة مراتٍ ومراتٍ على الذين سعوا، برغبتهم وإرادتهم، إلى السقوط في وهم الخداع الأكاديمي، تحت وطأة الهوس بما يسمى “مرض الشهادات” الذي ترعرع في مجتمعاتنا لأسباب كثيرة، بعيدا عن أي وعي أو علاج حقيقي له.

عن Saadiah

شاهد أيضاً

لوحة للفنان أسعد عرابي

هل سأنجو هذه المرّة أيضاً؟

سعدية مفرح/ تنقذني الكتابة، ولو مؤقتاً، من الغرق في لجة الكآبة ومجاهيل الاكتئاب. فمنذ أن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *