سعدية مفرح:
من خلال تجربة طويلة مع النقد الأدبي والعمل الأكاديمي، قدمت الناقدة اللبنانية الدكتورة يمنى العيد للمكتبة العربية والحركة النقدية إسهامات مهمة، كان من أبرزها (تقنيات السرد الروائي)، (في معرفة النص)، (في القول الشعري)، (فن الرواية العربية بين خصوصية الحكاية وتميّز الخطاب)، (الكتابة: تحوّل في التحوّل)، و (أمين الريحاني: رحالة العرب) إلى جانب عدد كبير من الأبحاث والكتب التي وضعت اسمها بجدارة بين أهم النقّاد العرب المعاصرين. في هذا الحوار محاولة لإلقاء إضاءات جديدة على جوانب من التجربة الثرية.
- أشعر وأنا أتماس مع تجربتك النقدية بكثير من القلق المجهد، الدءوب، الساكن بين تضاعيف التجربة والمتحرك باتجاه المزيد من التدقيق المضني والمتراكم، لماذا كل هذا القلق؟ من أين يأتي؟
– ربما لأنني كلما حققت شيئاً أشعر برغبة في التجاوز.
- ألا ترين أنه قلق غير معتاد بالنسبة للناقد الذي يقف على أرض واضحة المعالم والتضاريس غالباً، ويمتلك من الأدوات البحثية المحددة ما يساعده على دفع القلق الذي يواجهه المبدع وهو بصدد إنتاج نصّه في فضاء الإبداع المجرّد ربما؟
– بالنسبة للنقد، أنا أعتقد الآن أنني وصلت إلى مرحلة أصبح لزاماً علي فيها البحث عن بدايات جديدة. وفي كتابي الأخير حول فن الرواية، استطعت أن أصل إلى مقولات أو نتائج أو خلاصات لعملي النقدي السابق، ولذا فقد صار لزاماً علي الآن العودة إلى بداية جديدة أو طرح أسئلة جديدة، وأنا أعتبر النقد الذي يعمل على العمل الروائي في جانب منه تساؤل حول عملية الكتابة ككل، إذا كان النص الأدبي رؤية للعالم وموقفاً من العالم وحواراً مع هذا العالم، ورغبة في تطوير هذا العالم، فالنقد ليس بمعزل عن هذه الأسئلة، وهو يتقاطع مع أسئلة الأدب.
- لكن الكتابة النقدية لاحقة لكتابة النص الأدبي أو ربما نتيجة لها؟
النقد – بالطبع – يشتغل على النص، وهو كتابة على الكتابة، لكنه في الوقت نفسه، وكما أراه، علاقة مع الحياة، وهو بهذا المعنى يتقاطع مع الأدب، وكما أن الأدب هو كتابة من الحياة، فهو أيضاً كتابة من الكتابة، أي أن الأدب لن يكتب فقط من الحياة ولكنه يكتب أيضاً من الكتب، ومن الفلسفة ومن الفكر، ومن الأدب بمختلف أنواعه، ومن الأساطير، فالشاعر عندما يكتب يكتب شعراً يقرأ شعراً، وفي الوقت نفسه له علاقة مع الحياة ومع الأشياء المعيشة، مع التجربة.
كما أن النقد لا يحاور الأدب فقط في حدود المكتوب من الأدب، يحاوره في علاقته هو أيضاً مع الحياة، فأيضاً هو له رؤيته من العالم، وله أسئلته المطروحة، وله موقفه النقدي من الحياة المعيشة ومن الواقع الاجتماعي، ومن الموت ومن مفاهيم الجمال أيضاً.
- هل نستطيع إذن اعتبار النقد – وفقاً لمفهومك السابق ـ بشكل أو بآخر هو إعادة كتابة النص؟
– ليس كذلك، لا أبداً، ولكنه حوار طويل وتحليل، فنحن نحلل النص ولكننا نحاوره أيضاً فيما نحن نحلله، وهذا يعني أننا لا نقبل بمقولات النص ولكننا نستنتج معانيه ونحاورها ونستطيع الكشف عنها وتأويلها.
- لماذا أنت ناقدة؟ لماذا النقد؟ من القارئ المفترض للنقد؟ هل هو المتلقي أم المبدع نفسه؟ من هو قارئك؟
– ليس المبدع فقط هو قارئ النقد، المبدع هو أيضاً ناقد في علاقته مع نصّه، وهو يصغي في الوقت نفسه لرأي الناقد والباحث والمستقبل للنص، ولكنه دائماً يعود لحوار مع تجربته ومع ذاته.
أنا شخصياً تلازم عملي النقدي مع تجربتي التدريسية في الجامعة، لقد كان لديّ همّ بلورة منهج في القراءة الأدبية، وفي التفكير أيضاً في شئون الحياة، وفي طرق تعبيرنا التي أتوخى أن تكون طرقاً منطقية ترتكز على دليل أو برهان، لقد كان لديّ هم إعادة صياغة بنيتنا الفكرية بطريقة منهجية، وأعني بالمنهجية المنطقية ولا أعني منهجاً معيناً، وإنما طريقة تفكير تبحث وتسأل وتربط الأشياء وتعرف ماذا تريد أن تقول وتحاول أن تجد الأجوبة أو أن تومئ إلى الأجوبة أو أن تطرح أسئلة على الأسئلة. لماذا؟ لأنني عانيت في علاقتي وفي تربيتي وفي طفولتي وفي طرق التعليم التي تعرّفت عليها ، فقدان المنطق. رأيي أن الناس إجمالاً أصبحوا يرمون الكلام على عواهنه، ولم نعد نستطيع التفاهم أو التحاور، فيصير تبادل الحوار بيننا مجرد فوضى وشتائم، وربما على لاشيء، وربما على ذاتية متعالية وكبرياء فارغ دون أن يرتكز ذلك على معطيات أو على قيم تسمح لها بأن تتعالى، وهذا منعكس على مجمل علاقاتنا الحياتية، وحتى على مستوى علاقات الدول الكبرى أو السياسية، لاحظي – مثلاً – الحروب أو الاقتتال الداخلي أو الاقتتال بين الدول العربية.. على ماذا؟ أليس فقدان الحوار المنطقي العقلاني الذي يضع المنفعة العامة والقضايا المعرفية الكبرى وقضايا الإنسان المتعلقة بالموت وبالحياة وبحق الإنسان بالحياة وبالحرية وبقيم كبرى لو كنا نتجادل حولها بموضوعية، وعلى مسافة منها لحققنا شروطاً أفضل للحياة لنا وغيرها.
وأنا أعتقد أن مرد ذلك يرجع إلى أن مجموع الناس العاديين يفتقدون مناهج في التفكير، أعني منطقا في التفكير يحررهم من التبعية، ومن أن يكونوا مجرد قطيع أو أن يكونوا أتباعاً لشخص ينقلبون معه بين عشية وضحاها، ثم ينقلبون ضده في اليوم التالي. فلو كنا نملك طرقاً في التفكير وعقلية تبحث وتتأمل وتتبصّر وتعلل وتحلل، وبهذا المعنى أقول لك إن ما يهمّني في عملي هو المنهجية في القراءة التي يمكن أن نفتحها على المنهجية في السلوك.
- إلى أين وصلت على هذا الصعيد؟ هل نستطيع الحديث عن نسبة معينة من النجاح يمكن تحديدها مثلاً؟
– أعتقد أن وصولي مرتبط بالآخر وليس بما أنتجت، وعلى صعيد ما أنتجت حققت الكثير، فهناك الكثير من طلابي الذين استطاعوا أن يتغيّروا – وأنا بالمناسبة سعيدة جداً بما عرفته منك قبل قليل عن مدى قراءتك لي واهتمامك وتأثرك بتجربتي منذ دراستك الجامعية – لكن المشكلة دائماً أننا نمر بانهيارات، وهذه الانهيارات ينتج عنها وضع يجعل مجموع الناس يميلون للأسهل ويحبطون، ولا يعود لديهم رغبة في التحصيل أو التفكير، كما أن الأزمات الاقتصادية والمعيشية تجعل الناس يبحثون عن مجرد شهادة أو وظيفة، إلى جانب الطابع العام للمرحلة المصبوغ بالاستهلاك وبالتحصيل المادي وبالانتهازية أحياناً، أي أن هناك أوضاعاً تاريخية وسياسية نمر بها الآن أثرت في قدرة هذه المناهج أو هذه الثقافة التي تتوسّل المنهجية وتستهدف المنهجية ،أي استعمال العقل، والنطق على مدى فاعليتها.
الهوية والاستقلال
- بما أنك متابعة للحركة النقدية في الوطن العربي كله، كيف تقيمينها وفقاً لتجربتك الخاصة وقراءتك للوضع العام؟
– كما هو الحال في كل ميادين الإنتاج، هناك السيئ، وهناك المتميز في العالم العربي، هناك مَن يملك هاجس المعرفة المبنية على بحث جدّي دقيق ، وهناك نقّاد أو مثقفون بشكل عام لا يدققون فيما يقولون، وبسهولة نستطيع رصد الناقض، هناك تيارات نقدية متنوعة.
- في فترة من الفترات، كان الناقد أو المثقف يخضع في الغالب لالتزامه السياسي – مثلاً – أو لاهتمامه بالمضمون.
– هذه المرحلة كانت بالنسبة لنا بدايات النهضة، لقد طغى بالفعل الاهتمام بالمضمون، لكن هذا الاهتمام بالمضمون كان مندرجاً في سياق قضايا الهوية والاستقلال والحرية والاستبداد وهي قضايا مهمة يجب ألا نغفلها أو نضعها موضع الدونية أو السلبية. بل إن المرحلة كانت تتطلب ذلك، وكنا محكومين تحت الانتداب أو الاستعمار، ولم نكن قادرين على الاستفادة من مواردنا الطبيعية، كنا لا نملك ذواتنا، وكنا بحاجة إلى عمل ثقافي يسند هذه القضايا. وأنا أعتبر ذلك كان بداية تاريخية، لكن النقد تطوّر بعد ذلك إلى قضايا البناء والملامح الفنية أو جماليات النص بشكل عام هو أيضاً مبني على المرحلة التي حفزته أو شكّلت له أساسا أو ركيزة يستطيع من خلالها الانطلاق. كما أن نتاجنا الأدبي كان في بدايات البحث والتكوّن، فالرواية جديدة والشعر كان يعاني من بقاءه في قيود الكلاسيكية.
- هل المثقف هو الذي ينبغي عليه اقتراح خريطة معينة للسياسي مثلاً او العكس؟
ـ أنا أعتبر أن مهمة المثقف الأساسية هي أن يقوم بعملية النقد. والمثقف لا يستطيع اقتراح مشروع كامل، ولكنه يضع ملاحظاته على ما هو قائم بالفعل ويحلم ويتأمل، من خلال هذه الملاحظات يتبين توجهه، فعندما يرفض العبودية فهو يدعو للحرية، وعندما يرفض الظلم هذا معناه أنه يدعو للعدالة.
- ما الحصاد الذي ترصدينه كناقدة خلال ثلاثين سنة مضت، هل قام المثقف العربي بالفعل بهذا الدور بنجاح؟
– النجاح لم يكن كافياً، كان ينبغي أن يقوم بدور أفضل لأن النقلة من الاهتمام بالمضمون إلى الاهتمام بالشكل – وهي القضية التي سبق الكلام عنها – مرت بمرحلة من التجريب أو التلمّس لتملك الأدوات في أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات، لقد كانت مرحلة تلمّس للأدوات النقدية التي تجعلنا نقرأ دلالة الشكل الأدبي ونطرح نظرية الرواية الأدبية أو مفاهيم الشعر. لقد كان هذا، إذن، مرهونا بهذه الناحية (أي تملك الأدوات وهضمها)، ومرهونا أيضاً بحركة التطوّر الأدبي نفسه، أي أننا لا نستطيع التحدّث عن نظرية للرواية العربية إذا لم يكن لدينا رواية عربية.
- هل نستطيع اليوم التحدّث عن سؤال عربي نقدي مشترك؟
– أعتقد أن السؤال النقدي الراهن يعود إلى السؤال الأول وهو السؤال الثقافي المرتبط بمعرفة وضعنا وذواتنا ولكن من باب أو مدخل آخر هو مدخل الأدب كفن أو كأدب، يعني من بنائه ومن كونه نوعا له خصائصه، وبهذا المعنى هو حوار مع الأدب كأدب وليس باختزال الأدب إلى مجرد الأيديولوجيا والمضمون، وهذا يعني – باختصار – أن هناك عودة إلى المعنى لكن عبر إعطاء إمكان للقراءة والقارئ بأن يكون مشاركاً في إنتاج النص، أي وضع النقد على مسافة القراءة هي مدخل جديد يشرك مجموعة القرّاء ويتطلب في الوقت نفسه الاهتمام بتكوين ذاكرة ثقافية قادرة… تتحاور وتشارك مع النص.
وهذه العملية تتطلب نهضة على أكثر من مستوى من مستويات الواقع الاجتماعي وفي إطار أكثر من مؤسسة مثل المؤسسة التعليمية والمنابر الثقافية والإعلام ومدى اهتمامه بالثقافة، إعادة صياغة القارئ كمواطن من حقّه أن يشارك في العملية الثقافية.
موت المثقف
- من حق القارئ المشاركة في إنتاج النص، هل تعتقدين أن القارئ العربي يمارس هذا الحق.. هل يستحقه؟
– لا.. لا يمارسه لأنه غير معد لهذا الدور، فالتعليم عندنا يحتاج إلى تطوير، وإعلامنا ومؤسساتنا الثقافية تحتاج إلى تطوير أيضاً ، خاصة أننا مقدمون على مرحلة جديدة عنوانها العولمة، ومن أخطر عواقبها تغييب الإنسان العادي بحيث لا تعود له ضرورة في التاريخ، فالتاريخ هو تاريخ مَن يملك المؤسسة أو صاحب المؤسسة الاقتصادية والذي يتحكم فيها، حتى الدولة كمؤسسة ترعى حقوق الناس وتدير شئون البلد ستهمش وسيعطى دورها إلى المؤسسة الاقتصادية الخاصة، وحتى السياسة ستهمش وستصبح خاضعة وتابعة للاقتصاد، أنظري إلى ما يحدث في أمريكا الآن، مَن الذي يتحكم بكل شيء، أليست الشركات الكبرى؟ وفي نظام كهذا يصبح الإنسان العادي مهمشاً إلى أقصى حد ويصبح الربح هو الذي يحدد السياسة من حيث علاقتها بالثقافة وبالمجتمع وبالإنسان وبالتعليم وبالوسيلة الإعلامية، وهذه كارثة، لكن الثقافة هي التي عليها أن تعيد الاعتبار إلى دور الإنسان العادي كقارئ وكمنتج ومساهم ومحاور لمشاكله.
وبهذا المعنى نرى أن الأديب مثقف وأن إعلان مقولة موت المثقف إعلان يصب لصالح السوق، لماذا يريد أن يموت المثقف… ولم يعد له أي دور؟! طبعاً نحن هنا لا نريد أن نعيد للمثقف دور الراعي أو الزعيم أو الأب أو الموجه أو صاحب السلطة، ولكننا نتحدث عن دوره المشارك الرافض المتأمل والمتبصّر المنتج، حتى يكون قارئاً مثقفاً.
- إذن في هذه الحالة لم نعد نتحدث عن نقد عربي، شعر عربي، دور عربي، هل من الضرورة المحافظة على هذا الشكل من الهوية في ظل هذا الانفتاح وهذه العولمة؟
– الانفتاح لا يلغي الهوية.
- ولكنه يضع لها مفهوماً آخر…؟
– يضع لها مفهوماً أكثر غنى وأكثر ثراء، إذا رجعنا للتاريخ، نجد أن الهوية لم يكن لها مفهوم ضيق ملتصق بالسياسة أو الواحدية الملمح أو الفئوية، إن هوياتنا تغتني دائماً بروافد متعددة من الثقافة ومن التاريخ ومن التراث، ارجعي إلى هويتنا العربية، ألا تلاحظين روافدها الفينيقية والفرعونية والفارسية واليونانية والهندية؟ إن مشكلتنا مع الهوية هي مشكلة موقعنا السياسي في عملية الصراع على الكرة الأرضية، فنحن في موقع ضعيف ولذلك نجد أنفسنا نضيق على هويتنا ونخاف عليها.
- تميّزت كتاباتك النقدية دائماً – وعلى عكس غالبية الكتابات النقدية – بلغة مبدعة وجميلة، أنا شخصياً أستمتع بقراءة ما تكتبين كنص إبداعي خالص، وأشير خصوصاً إلى كتابك (في القول الشعري).. فهل يكون النص النقدي نصاً إبداعياً بالضرورة؟ وأنت شخصياً هل تحرصين على ذلك بشكل واع؟ هل تفتعلينه؟
– لا أبداً، لكن يمكن أن يكون السبب الوحيد لهذه اللغة هو أنني كنت دائماً لصيقة الصلة بالحياة، لقد كتبت هذا الكتاب (في القول الشعري) مثلاً بعد الأحداث في لبنان حيث لم أكن قادرة وقتها على الخروج من مشاعري ومن معاناتي، وأنا أعتقد أن الكتابة صدق وحقيقة، والجمال يأتي من الصدق ومن الحقيقة ومن قدرة الكاتب على التعبير بما يشعر به بصدق وحقيقة. (وبالمناسبة: من الجميل أن أجد واحدة تقرؤني بهذه الدقة… هذه مفاجأة).
- بالمناسبة… ألم تكتبي إبداعاً قصصياً أو شعرياً ـ مثلاً – ذات يوم؟
– كتبت قصصاً قصيرة ونشرتها في دوريات ومجلات مختلفة.
- ولكنها لم تصدر في كتاب أو مجموعة قصصية؟
– صحيح، لأنني لست محترفة.
- مَن قرر ذلك، أعني كيف عرفت أنك لست قاصّة أو محترفة؟
لم أواظب على الكتابة القصصية، ولم أحاول قراءة القصة القصيرة وأتعرّف على قوانينها وشاعريتها وأستفيد منها.
- من المفارقة أنك إبداعياً اهتممت بكتابة القصة القصيرة، ولكنك نقدياً اهتممت بنقد الرواية، هل قصدت تلك المفارقة؟ هل لاحظتها أولاً؟
– لا لم أقصد شيئاً، ولكنني أعتقد بشكل عام أن كل كاتب في البداية يوسّع الإطار ثم يضيقه قليلاً قليلاً حتى يستطيع التعمّق أكثر فأكثر، وأنا وجدت في الرواية إمكانية عمل أرحب لي من إمكانية العمل بالنسبة للشعر أو القصة القصيرة.
- البعض يروّج هذه الأيام لنظرية تداخل الأجناس الأدبية ويقول إنه لم تعد هناك رواية أو قصيدة أو قصة قصيرة.. فقط هناك نص…
– لا طبعاً، دائماً هناك رواية، وإن الرواية تستوعب وتستفيد من الأجناس الأدبية الأخرى وتداخلها، وهذا يعني أن هناك تداخلاً بالفعل، ولكن معناه أن الرواية تستفيد من الأجناس الأخرى، والشعر كذلك، وعلى سبيل المثال دائماً كان الشعر يستفيد من القصة والحوار، ربما منذ أيام عمر بن أبي ربيعة، ولكن الشعر يظل شعراً، والرواية تظل رواية، والقصة القصيرة تظل قصة قصيرة، والمسرح يظل مسرحاً، وهذا يعني أن هناك تداخلاً – بالفعل – ولكن في الوقت نفسه هناك تميّزاً، وهذا لا يسهل عملية القراءة وحسب، ولكنه يخلق لها فضاءها الخاص، فلكل عمل شعريته الخاصة وجماليته التي على أساسها يتواصل القارئ مع هذا العمل تواصلاً تمتزج فيه المتعة مع المنفعة.
- أنت تكادين تكونين من القلة الذين اهتموا بتجربة الحرب على هامش الكتابة الإبداعية، وفي كتابك (الكتابة تحول في التحول) رفضت بإصرار شديد أن تعطي للحرب أي (فضل) على إنتاج الإبداع وإنتاج الثقافة التي تماست معه، ومع ذلك، احتفيت بتجربة الأدباء الشباب الذين تكوّنوا في أجواء الحرب…؟
– أنا لا أحب أن أرجع الإنتاج الأدبي إلى عامل محدد وراهني، كما أنني لا أستطيع أن أقيم علاقة ميكانيكية بين الحرب والإنتاج، طبعاً، كان هناك أثر للحرب في هذا الإنتاج، ولكن هذا الأثر يمكن أن يكون فقط في المعاني والمضامين، لكنه ليس الأثر الوحيد، فالكتابة عملية تاريخية مستمرة ومفتوحة على مرجعيات وروافد متعددة، وهكذا لا أستطيع أن أرهن الكتابة التي ظهرت في فترة الحرب بفترة الحرب أو بمعنى الحرب فقط، فهي يمكن أن تكون تمرّداً على الحرب ورفضاً لها، كما أنها تحمل شيئاً منها وتعبّر عنها وتتجاوزها فيما هي تعبّر عنها وتتأثر بها وتؤثر فيها.
جيل الحرب
- نلاحظ أيضاً أنك تعاطفت مع هذه التجربة لأسباب عدة أشرت إلى بعضها في مقدمة كتابك، وقلت إنها (تظل مفتوحة على احتمالات)… الآن، وبعد مرور كل هذه السنوات، ما تقييمك لهذه الاحتمالات؟
– ظهر الكثير من هذه الاحتمالات بشكل بطيء، ومن الأسماء التي ذكرتها في كتابي يحيى جابر، والآن أرى أن تجربته انطلقت وتبلورت ونضجت وتجاوزت الحرب دون أن تنفيها، لقد تبلورت تجربته بشكل آخر، وهناك أيضاً ربيع جابر، ورغم أنني لم أتحدث عنه في ذلك الكتاب بالتحديد، ولكنني كتبت عنه مقالاً كما كتبت عنه في كتابي الجديد، وأرى أنه جاء بنمط من الكتابة جديد وقيّم وجميل. وقد أصدر ست روايات رغم أنه لم يتجاوز السادسة والعشرين من عمره. وأنا أعتبره ظاهرة من ظواهر جيل الحرب، لا نردّها لسبب الحرب ولكنها مفتوحة على روافد عدة مثل الثقافة التراثية، عربية وغير عربية، وعلى المعيش من تجربته، وعلى ذاكرة الطفولة أيضاً.
بشكل عام، أريد أن أقول، في داخل الرواية، إننا قبل الحرب لم تكن لدينا رواية، ولم نكن نستطيع الحديث عن رواية ينتجها اللبنانيون، لقد كان كتّاب الرواية قلة، هناك، مثلاً، توفيق عواد وقبله من الجيل الأسبق جبران خليل جبران، الآن لدينا جيل لابأس به من الروائيين يكتبون رواية عربية لها نكهة خاصة متعلقة بالوضع اللبناني أو الحياة اللبنانية، ورغم أن لها هذه الخصوصية، ولكنها لا تتأطّر بها، وإن كانت تهتم بها إلا أنها تظل مفتوحة على ما هو أوسع، فنجد أن إلياس خوري يكتب عن الفلسطينيين، ورشيد الضعيف يكتب عمّا هو أوسع من الحدث، وربيع جابر كتب روايته الأخيرة عن الصين، وهدى بركات كتبت عن المعاناة الإنسانية للفرد وعلاقته مع الحب والموت… وهكذا.
- هل تعتقدين أن الرواية في لبنان الآن قد قالت (حكاية لبنان)؟
– لا، فمازال المجال واسعاً جداً لكي تُقال، وما كتب حتى الآن عن تجربة الحرب لم يكن على مستوى الحدث بشكل عام، ولكنه كان على مستوى المعاناة الإنسانية والخراب الداخلي والتكسّر والخيبة والألم ومشهد التدمير الذي لا يمكن أن تنساه الذاكرة، وهذا المشهد التدميري الذي كان له أحياناً طابع عبثي لن يستفد برواية أو اثنتين، ولكنه سيستمر وسنشهد إنتاجاً في الشعر وفي الرواية وفي المسرح وربما في الفن التشكيلي أيضاً.
- ذكرت قبل قليل اسم هدى بركات في خضم السماء الروائية اللبنانية، ولكن الأسماء الروائية النسائية تغيب عن كتاباتك النقدية… أهي المصادفة مثلاً؟
– لم أقصد تغييب الأسماء النسائية، فهناك أسماء رجالية غابت أيضاً، ولكنني مثل أي كاتب لا أستطيع أن أكتب عن الجميع، كما أنني أحب دائماً أن أفتح مادتي التي أعمل عليها على العالم العربي، في مصر والعراق ودول الخليج والمغرب العربي. وكل ذلك يعتمد على مدى استطاعتي أن أجد نموذجاً يوفر لي مادة للعمل في إطار أطروحتي النقدية، وبالتأكيد، فإن هذا لا يعني أنني أفضّل هذا الكتاب على ذلك الكتاب، لأنني كما قلت في البداية، أملك أطروحة معينة في كتابتي النقدية تركّزعلى المنهجية في القراءة والتحليل، ومن خلال هذه الممارسة التحليلية أستطيع بلورة منهج يتعامل مع النص لا كمجرد مضمون أو تكنيك، بل يتعامل معه كبناء له خصائصه وشكله ونمط كتابته، كما يعتمد ذلك على مدى استطاعتي أن أرى إن كانت البنية الشكلية بنية مميزة قائمة على استراتيجية توليف دلالات الحكاية الخاصة التي تحكيها أم لا، وهل الشكل قادر على أن يكون في اتساق وظيفي مع الحكاية الخاصة، وبهذا المعنى لا يكون الشكل شكلاً منقولاً، ولكنه شكل منتج ومبدع وقادر، فيما هو يحكي حكاية خاصة ، على أن ينفتح على الطابع الإنساني للحكاية وعلى الأبعاد الإنسانية لها، أي أنه يخرج من إطارها الضيق المحلي إلى بعدها الإنساني العام.
وهذا يعني أنني قد أغفل نصّاً أو لا أتناوله، لكنني أقرأه فهو عندي في القراءة وفي الذاكرة دون أن يعني عدم تناولي له تقليلا من قيمته، وإن كنت لا أضع كل الأعمال على المستوى نفسه بالتأكيد.
- نلاحظ أن المرأة الكاتبة بشكل عام ٌظلمت مرتين من قبل النقّاد العرب، مرة لأنهم غالباً ينظرون لما تكتبه تلك النظرة الدونية السائدة فيتم تجاهله نقدياً، ومرة أخرى لأن البعض منهم مؤمن بقضية المرأة فيقيمها بشكل أكبر مما تستحق، أي أن هذا البعض (يطبطب) على كتابات المرأة لمجرد أن كاتبتها امرأة بغض النظر عن مستواها وهذه ليست عدالة أيضاً؟
– هذا صحيح، ولكن دعيني أؤكد لك شيئاً وهو أن الناقد الفرد لا يستطيع أن يكتب عن كل شيء، وهو دائماً مطالب من قبل الذين يكتب عنهم بالكتابة، وأنت تعرفين أن الكتابة النقدية البحثية ليست كتابة صحفية المطلوب منها تغطية كل ما يصدر من نتاجات.
- كما أن الاختيار أصلاً هو موقف نقدي أليس كذلك؟
– نعم.. في شق من شقيه، لكن هذا الاختيار ليس مزاجياً ولا قيمياً، بل هو اختيار مرتبط أحياناً بطبيعة موضوع البحث.
وحول الموضوع نفسه، دعيني أخبرك أنني اشتركت في تونس قبل سنتين أو ثلاث تقريباً في ندوة حوار الثقافات، وكتبت عبر مشاركتي البحثية عن عدد من الروائيات العربيات بشكل عام مثل هدى بركات وعالية ممدوح وليانة بدر وسحر خليفة، كما كتبت عن أخريات أثناء وجودي في مركز الدراسات النسائية في صنعاء مثلاً.
منهج الإضافة
- لم أوجّه سؤالي لشخصك النقدي، ولكنني أوجهه بشكل عام، أخشى أن يتحوّل الاهتمام بكتابات المرأة إلى اهتمام مفتعل تحت ضغط من الخطاب السائد الذي ينظر بعين العطف للأقليات والنساء و… و… إلخ أخشى أن ينظر لنتاجات المرأة المبدعة من هذا المنظار…؟
– ولذلك أنا لا أفتعل الكتابة، ولكن عندما تدعوني الحاجة أو الضرورة لا أتردد أبداً، وأنا معجبة بكتابات الكثير من النساء، ليس لدي موقف مسبق، لكن الناقد لا يستطيع الكتابة عن الجميع، وأنا – بالمناسبة – أتمنى أن يحدث لدينا مثل ما يحدث في بلدان أخرى حيث يتخصص الناقد بأديب معين لأنه يشكّل ظاهرة ما مثلاً، أتمنى بالفعل أن يحدث هذا لأن التخصص نوع من العمق.وبشكل عام، لقد مررنا، نحن النقّاد، بمرحلة من الوقت كنا نكون فيه أدواتنا، ونقرأ مراجع نقدية، ونحاول امتلاك منهج بالإضافة إلى أنه كان علينا أن نقرأ نتاجنا الأدبي، أي أنه كان علينا الجمع بين عملية التثقف وعملية التملك للمنهج الذي هو معرفة، وهذه ليست عملية سهلة. لا نريد أن ننكر أننا استفدنا من الغرب، لكننا أيضاً حاولنا النظر إلى ما هو موجود في تراثنا للاستفادة من الاثنين دون أن نفقد انتماءنا. أنا – مثلاً – عندما كنت أريد استخدام تعبير عن ( discorurse ) وأقولها بالأجنبية – وجدت أن الكلمة المستخدمة هي كلمة (الخطاب)، لكنني وقفت واضطررت أن أرجع للفارابي وأقرأ في كتبه إلى أن وجدت أنه كان يستخدم مصطلح (القول) وبالفعل قمت باستخدام هذه المفردة، في حين أن كمال أبوديب – مثلاً – استخدم مفردة (الإنشاء) ولا أدري إلى أيّ كتب التراث قد رجع ليجد فيها مفردته تلك، ولك أن تعرفي ذلك لتكتشفي الصعوبات التي نعاني منها كنقّاد في إيجاد المصطلحات وتعريب المفاهيم.
- ومع ذلك تجدين مَن يستخدمها بمجانية…؟!
– ربما لأن إحدى مشاكلنا أننا لا نطوّر معارفنا بعلاقة مع ما قدم من سبقنا، ننكر كل شيء ونقول إننا نبدأ من جديد.
- تشيرين إلى سيف الإلغاء الذي صار يحمله الكثيرون بهدف إلغاء كل ما سبقهم؟
– نعم، سيف الإلغاء من موقع الجهل والاستسهال، ومن موقع الإدّعاء بأننا نحن الذين نبدأ.
أنا أعتبر أن هناك جيلاً قبلنا من النقاد استفدنا منه، فهناك – مثلاً – طه حسين والعقاد ومحمود أمين العالم ورئيف خوري ومارون عبود ومحمد مندور وميخائيل نعيمة وجماعة الديوان وجماعة أبوللو ومن ذكرت ومن لم أذكر، فلا يجوز أن نعتبر أنفسنا أننا نحن مَن بدأ، نحن نبني ونتجاوز، وهذا يعني أن هناك عملية بناء وتجاوز، وربما تدمير أيضاً ولكنه ليس تدميراً بالمعنى السلبي، بل يعني أننا قد نرجع لما دمّر فنأخذ منه جزءاً أو عنصراً ما، ونبنيه في سياق آخر (…) أي أننا نقوم بممارسة نقدية مختلفة لا تلغي وإنما تطوّر ما سبق.
- أشرت قبل قليل إلى عودتك إلى التراث في استخدامك لمصطلح (القول) باعتباره (الخطاب) كما رجعت إلى الجرجاني في استخدامك لمصطلح (الدلالة) دون أن تتماهى معه، وهناك أمثلة أخرى، ورغم ذلك هناك مَن يتهمك أنت وجيلك بتهمة عدم الاهتمام بالتراث؟!
– نحن نرجع للتراث بأسئلة نابعة من واقع الألم ومن واقعنا . وعندما أقول من واقعنا يعني من حالة أو وضع ثقافي مختلف.. ومن أسئلة مختلفة… مختلفة.
(سعدية مفرح/ مجلة العربي 1 سبتمبر 2004)
عناوين أخرى نشرت مع اللقاء:
- تطور النقد مرهون بمرحلة تحفّزه على الانطلاق
- مقولة موت المثقف مجرد إعلان يصب في مصلحة السوق