الرئيسية / فواصل / تحقيقات وقضايا / ​أركون وكِتابه: “حين يستيقظُ الإسلامُ”

​أركون وكِتابه: “حين يستيقظُ الإسلامُ”

المهدي مستقيم(*)

يضمّ كِتاب محمّد أركون: “حين يستيقظ الإسلام” الصادر حديثاً عن منشورات ألبان ميشال الفرنسيّة (2018) عدداً من النصوص المهمّة التي تُسلِّط الضوء على قضايا وهموم مُعاصرة ليَوم الناس هذا، وما يزيدها قيمة وأهميّة يرتبط بلحظة وفاة مؤلّفها، بيد أنّها تُشكِّل آخر مرحلة من مراحل إنضاجها بالنَّظر إلى المَسار الجادّ والمُثابِر الذي سلكه محمّد أركون على امتداد عقودٍ من الزمن في تشييد مشروعه الأصيل. ويعود الفضل في إصدار هذا الكِتاب، فضلاً عن الكتابَين السابقَين: “قراءات في القرآن” و”التشكيل البشريّ للإسلام”، إلى زوجة محمّد أركون السيّدة ثريّا اليعقوبي أركون التي قامت باستخراج نصوص محمّد أركون من جهازه الإلكترونيّ وترتيبتها ترتيباً جيّداً.

يُطبِّق محمّد أركون على الإسلام في هذا الكِتاب، الذي تكفَّل بنقله إلى اللّسان العربيّ الأستاذ هاشم صالح (منشورات دار الساقي 2019)، العنوانَ نفسه الذي سبق أن طبَّقه ألان بيرفيت Alain Peyrefitte على الصين في مؤلّفه الذي عَرف رواجاً منقطع النظير: “حين تستيقظ الصين …سوف يهتزّ العالَم”، وذلك بالنّظر إلى شحنة الأمل الكبرى التي يتضمّنها هذا الكِتاب من جهة، وإلى انبهار المؤلِّف بالصين من جهة ثانية، وإعجابه بخروج الشعب الصيني من الإيديولوجيا الماويّة الديماغوجيّة العميقة ودخوله التاريخ الكبير للاقتصاد اللّيبرالي للسوق الحرّة. إنّه الأمل نفسه الذي طالما راودَ محمّد أركون، الذي ما انفكّ يُنادي بضرورة انتشال عالَم الإسلام الكبير من سجن السياجات الدوغمائيّة المُغلقة، الأمر الذي يعبِّر عنه في قوله: “ننتظر خروجه بفارغ الصبر، من تلك الانغلاقات اللّاهوتيّة المتتالية حيت ما انفكّت الحياة الفكريّة، والروحيّة، والثقافيّة، والاقتصاديّة، والسياسيّة، تتراجَع وتُجمَّد وتُحنَّط منذ القرنَين الثالث عشر والرابع عشر. لقد جُمّدت وتَحنّطت في تعبيرات شعائريّة وفي أخويّات وطُرق دينيّة وشهادات عقائديّة تبسيطيّة” (محمّد أركون، حين يستيقظ الإسلام).

يعتمد محمّد أركون مُقاربةً ذات منظورٍ حديث للفكر النقدي الراديكالي المُطبَّق على التراث وعلى جميع الموضوعات المرتبطة به، وذلك استناداً إلى منهجيّة تاريخيّة حديثة ذات فضولٍ مَعرفيّ واسع، تُقابِل المُقارَبة السلفيّة الإصلاحيّة داخل الفكر الإسلامي التي تستند إلى مواقف خياليّة أسطوريّة مخلوطة بالمُقارَبة التاريخيّة للمشكلات المتعلّقة بالرؤية الدينيّة. ويهدف مشروع أركون، في دراسته للإسلام كدينٍ وفضاءٍ اجتماعي- تاريخي، إلى التوصّل إلى استراتيجيّة جديدة بغية إنجاز الدراسة المُقارنة بين الثقافات البشريّة المُختلفة: “لقد حان الأوان لكي نضع حدّاً لهذه المُناطَحة غير المُناسِبة بين موقفَين دوغمائيَّين متحجّرَين، أي موقف المُسلمين ومَوقف المُستشرِقين. ونقصد بذلك الصراع بين المزاعم اللّاهوتيّة للمؤمنين المتديّنين، وبين المسلّمات الأيديولوجيّة للفلسفة العقلانويّة الوضعيّة” (محمّد أركون، حين يستيقظ الإسلام).

ومن أجل ذلك يلحّ أركون على ضرورة التركيز على المنهجيّة التاريخيّة والاجتماعيّة والأنثربولوجيّة لدراسة الدّين بغية إغناء مُقارَبته لاهوتيّاً وفلسفيّاً، أي من خلال منهجيّة التفكيك التي تعود إلى الشروط التاريخيّة والاجتماعيّة المحسوسة التي كان الإسلام قد عيش وفُهِم ومورِس بها دائماً: “طوال قرون كانت الأديان قد هَيمنت على البشر وشكَّلت رؤيتهم للعالَم وجبلتهم بها. أقصد شكَّلت رؤى مُختلفة ومعقّدة كانت كلّ الوقائع والأشياء قد تمّ تصوّرها بها. وكذلك تمّ إدراكها وتقييمها وتصنيفها وقبولها أو رفضها دون إمكانيّة النّظر إلى الوراء لرؤية الصيرورة العقليّة والتاريخيّة التي أدّت إلى تشكُّل كلّ واحدة من رؤى العالَم هذه. لهذا السبب، ينبغي تطبيق المنهجيّة التفكيكيّة على التراثات الدينيّة لمعرفة كيف حدثت الأمور بالضبط. لكنّ عمليّة التفكيك ليست مُمكنة إلّا بإبستمولوجيا نقديّة حديثة” (محمّد أركون، حين يستيقظ الإسلام).

يقتضي وضع الإسلام على محكّ التعقّل أو التفكير العميق بحسب محمّد أركون الاستجابة لحاجتَين ملحّتَين، إذ “ينبغي على المُجتمعات الإسلاميّة أن تفكّر، وللمرّة الأولى، بمشكلاتها الحقيقيّة الخاصّة التي كان انتصار الفكر الأرثوذوكسي السكولائي الاجتراري بدءاً من عصر الانحطاط قد جعلها عصيّة على التفكير أو مستحيلة التفكير. ومن جهة أخرى الفكر المُعاصر عامّة بحاجة إلى أن يفتح حقولاً أو مَيادين جديدة وأن يستكشف آفاقاً جديدة من المعرفة. ويتمّ ذلك عبر مُقارَبة مُنتظَمة وثقافيّة للمشكلات الأساسيّة للوجود البشري. كانت هذه المُشكلات قد عالجتها الأديان التقليديّة التي قدَّمت أجوبتها عنها طبقاً لمنهجيّتها الخاصّة” (محمّد أركون، حين يستيقظ الإسلام).

ومن ثمّة يأخذ أركون على مؤرِّخي الإسلام إهمالهم لمسألة المخيال بما هي مادّة خصبة للبحث التاريخي، وخصوصاً أنّه يصعب علينا فهْم الأحداث السياسيّة والاجتماعيّة والثقافيّة وربْطها بأصولها ومُسبّباتها وبتأثيراتها وانعكاساتها من دون الرجوع إلى المخيال، بيد أنّه “ينبغي العلم أنّ فهْم التاريخ المدعو “الإسلامي” وكِتابته ستتغيّر كليّاً إذا ما قبلنا فتح حقلٍ معرفيّ جديد خاصّ بالمخيال الاجتماعي وبالبنى الأنثربولوجيّة لهذا المخيال كما يُمكن وصفه مثلاً بكِتاب إحياء علوم الدّين للغزالي، أو بتفاسير القرآن، أو أيضاً بخطابات الحركات الأصوليّة المُعاصرة. في كلّ هذه الأدبيّات، يلعب الخيال أو المخيال الاجتماعي التجييشي الجبّار دَوراً مركزيّاًـ إنّه يحرّك الملايين ويُسيطر على الوعي الإسلامي من أقصاه إلى أقصاه” (محمّد أركون، حين يستيقظ الإسلام).

معلوم أنّ الشعوب القديمة كانت تولي المخيال مكانةً رمزيّة مرموقة، كما كانت تحيطه بهالة من التقديس المُبالغ فيه أحياناً، ويتّضح ذلك من خلال المَنزلة الرفيعة التي احتلّتها الأسطورة والشعر والأمثال لدى هذه الشعوب. على أنّ المخيال هو المدخل الرئيسي لكلّ معرفة، إذ يظهر على شكل رسومات تخطيطيّة لمُجتمع ما، وهي رسومات تتطلَّب جهداً معرفيّاً وتأويليّاً للكشف عن مَعانيها ودلالاتها المُضمرة. فالمخيال كما يقول سعيد الغانمي ليس “جمعاً وتركيباً للصور، بل هو شرط إمكان وجود الصور، على المستويَين الفردي والاجتماعي، وبقدر ما يؤسَّس المجتمع نفسه بالمخيال، فإنّ المجتمع يؤسِّس المخيال أيضاً” ( سعيد الغانمي، ملحمة الحدود القصوى).

يُعرِّف جيلبير دوران المِخيال بأنّه “المَسار الذي يتشكَّل فيه ويتقولَب تصوّر شيء ما من خلال الحاجات الغريزيّة للشخص، وتفسَّر فيه التصوّرات الشخصيّة المُسبقة للشخص في محيطٍ اجتماعي” (نقلاً عن سعيد الغانمي، ملحمة الحدود القصوى). هذا التعريف الذي توصَّل إليه دوران هو حاصل إيمانه بفكرة أساسيّة، تنطلق من أنّ دراسة الرموز الخياليّة يجب أن تتّخذ من الأنثروبولوجيا مَدخلها الرئيس، حتّى يتسنّى لها التحرُّر من روحانيّة عِلم النفس المُغلقة من جهة، ولكي تنجو بنفسها من سطوة الأنطولوجيا الثقافيّة القسريّة في عِلم الاجتماع من جهة أخرى، مع تأكيده على ضرورة الالتزام بقدرٍ من الحذر الإبستمولوجي، لكي لا تقع الأنثروبولوجيا في فخّ التمركُز الذاتي، فالأمر يتعلّق بأنثروبولوجيا تُمارِس البحث العِلمي بكلّ الحواس، أي بانفتاحها على كلّ العلوم التي تَدرس الجنس البشري، من دون السقوط في ذاتيّة عِلم النفس المفرطة ولا في موضوعيّة عِلم الاجتماع المُبالَغ فيها؛ إذ يصرّ دوران على فهْم الأنثروبولوجيا بوصفها “مجموعة العلوم التي تَدرس الجنس البشري دون الاعتماد على أفكار مُسبقة، ودون المُراهَنة على أنطولوجيا نفسيّة ليست في الواقع سوى روحانيّة مُغلقة، أو على أنطولوجيا ثقافيّة ليست عموماً سوى قناع لمَوقفٍ ثقافيّ يربط الظواهر كلّها بعِلم الاجتماع” ( نقلاً عن سعيد الغانمي، ملحمة الحدود القصوى). هنا بالضبط يتموقع المخيال، في النقطة الوسط الفاصلة بين ذاتيّة عِلم النفس وموضوعيّة عِلم الاجتماع، وهي نقطة تَضمن في الآن نفسه إمكانيّات الاتّصال والتفاعُل الرمزي بين ما هو ذاتي وما هو موضوعي.

من دون المِخيال لا يُمكن لمجتمعٍ ما أن يؤسِّس وجوده، وأن يُضفي على نفسه الصفة الاجتماعيّة، ذلك أنّ المخيال هو الأرضيّة التي يستند إليها وجود المجتمع، كما أنّ المخيال لا يكشف عن خطوطه ورسومه إلّا داخل المُجتمع، على أنّه ليس نِتاج عقليّة فرد أو مجموعة أفراد يقرؤونه بحسب المشيئة، بل هو الهويّة غير المنظورة التي يكوّنها المجتمعُ لنفسه.

يهدف محمّد أركون من خلال وقوفه على مفهوم المخيال إلى بيان دَوره الحاسِم في تشكيل تصوّرات الناس حول ذواتهم وحول الآخر، وقدرته على تكوين دلالاتٍ ومعانٍ، إمّا أنّها تُنشِّط حركة التاريخ أو تعوّقها وتُعرقلها. وحتّى نُزيل أيّ غموض أو لبس يُمكنه أن يعتري هذا المفهوم، نستحضر ما كَتبه عنه محمّد عابد الجابري: “إذا شئنا الاقتراب من المعنى أكثر وبصورة أوضح، فإنّه من الضروري الشروع منذ الآن في تبيئته عندنا، ومن أجل هذا الغرض نقول: إنّ مخيالنا الاجتماعي العربي هو الصرح المليء برأسمالنا من المآثر والبطولات وأنواع المُعاناة، الصرح الذي يسكنه عددٌ كبير من رموز الماضي مثل الشنفري وأمرئ القيس وعمرو بن كلثوم وحاتم الطائي وآل ياسر وعمر بن الخطّاب وخالد بن الوليد والحسين وعُمر بن عبد العزيز وهارون الرشيد وألف ليلة وليلة وصلاح الدّين الأيّوبي والأولياء الصالحين وأبي زين الهلالي وجمال عبد الناصر…إضافة إلى رموز الحاضر و(المارد العربي) والغد المنشود..إلخ. وإلى جانب هذا المخيال العربي الاسلامي المُشترَك تقوم مخاييل متفرِّعة عنه كالمخيال الشيعي الذي يشكِّل الحسين بن علي الرمز المركزي فيه، والمخيال السنّي الذي يسكنه السلف الصالح خاصّة، والمخيال العشائري والطائفي والحزبي..إلخ” ( محمّد عابد الجابري، العقل السياسيّ العربيّ).

عندما يستيقظ الإسلام من سباته الدوغمائي “سوف يعي لأوّل مرّة حجم اللّحظات التاريخيّة الفكريّة والفُرص الحقيقيّة التي أجهضها في تاريخه الداخلي نفسه. وسوف يعي حجم اللّحظات الفكريّة الكبرى الخارجيّة عليه، التي رفض التعرُّف إليها، وازدراها، وهي أهمّ بكثير من اللّحظات والفُرص الداخليّة. ونقصد باللّحظات الخارجيّة هنا لحظة التنوير الأوروبي منذ القرن الثامن عشر حتّى اليوم” (محمّد أركون، حين يستيقظ الإسلام).

(*)أستاذ وباحث من المغرب

 

(المصدر : مجلة أفق / مؤسسة الفكر العربي )

1134 – 101 العدد
17/2/2020

عن Saadiah

شاهد أيضاً

دائرة الضوء؛ خلف جدار اسمنتي

أحمد ناصر السميط/ تمثل المعرفة المدخل الرئيس لبناء الفكر والثقافة الجماهيرية والفردية، وهذا الأمر تتوارثه …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *