بقلم : جهاد أيوب
صدرت حديثاً في الكويت الطبعة الثانية من ديوان الشاعرة سعدية مفرح “آخر الحالمين كان” مهداة إلى نخلة شامخة، ورجال طيبين ـ أمي وأخوتي ـ تبدأ الكتابة بهزيمة، آخر الحالمين، مشروعان، عندما يتكلم الطير، سدى، انشغال، لم يكن فارساً، لماذا؟ اعترافات امرأة بدوية، شارع، فشل، تعريف، أمسية، سيناريو، صلاة، للفراق، صمت، ضيق، الفتى في خرائطهن قبيلتين، ممارسة، صيد ضوئي، إجابة، هدوء، انتظار، نقوش على ذاكرة أم، وحدة، مثل، مثلها الأخيرة، حوار من طرف واحد، وطن، الأوتاد تموت انتحاراً، قافية.
اختارت الشاعرة أن تكون في كل الاتجاهات، في عاصفة هزمتها ولتسكن في جدرانها كحلم يولد عند آخر الحالمين عند من يرى الرمال تموت، ويحكي مع الطيور نوادر الموجود، والأغاني تنتحر ليباس التحول في إنسان اليوم، وفي ذكريات البيات على جانبي النوم، والخوف يلثم الوجوه، ولم يعد للصمت حيلة، كأنما الطير أصبح خبيثاً، ومع هذا يبقى صمت الكاذبين أخبث يبري النهار رماداً.
في هذا الكتاب تلتقيك كلمات شاعرية مع تجربة تكاد تكون متكاملة ومتعاونة مع المضمون الصادق، والمتعادل مع خبرة الكاتبة في الحياة، كلمات انتقتها الشاعرة في اعتناءات متماثلة العناصر الأساسية لذاك العالم الحالم أكثر من وجوده الأنطباعي، وتعكس واقعاً اجتماعياً معيناً إلى أن يصل إلى واقع ذاتي خاص، “واقعنا واقعها، همومنا همومها، قضايانا قضاياها”، أعني تصورات وتطلعات وآمال تحادثنا باسهاب في أمور شتى تميز الكاتبة وتفرض قدرتها الشعرية، وتبرز الموهبة في حس مرهف لموضوعية المعاني.
صورها بالغة الخصوبة، أنيقة في اختيار كلمات متنامية حسب حركة التفعلية والإيقاعات المسترسلة مع السطور الشعرية المدونة بواقع مزخرف في معانيه، وفي شحنات عاطفية ملئت بالمخاطبة المباشرة، يشعر فيه المرء من طرف واحد، خاصة على صعيد الحب والعلاقة العاطفية، بينما في الأشعار المتحدثة عن الوطن والأرض والقضايا السياسية، نجد عكس ذلك..
أخونها
في كل ليلة
أعاشر الضياء
لكني أضبطها في لحظة الخيانة
راسبة في قاعي
مثل بقايا قهوة المساء.
تمد لي لسانها
تضحك في حضارتي المسكوبة ـ المهانةـ
بيت وشبابيك
وجدار مزدان بالصور الفوتوغرافية
وأناء الزهر المثلوم
بتململ من تلك الساكنة ـ الذابلة ـ وامرأة تنظر من خلل الكوة ـ للسابلة ـ والبيت الواسع يتململ من ساكنته الذابلتين
ويعود، ليعرف، في صمت ووجوم.
إنشاء الطبيعة
هكذا عمدت الشاعرة إلى إنشاء طبيعة متحركة تضاعف من التقليل التصادمي بين الحضور البصري والصوري المرافق للقراءة والخيال، جمل أو صور زاد النضوج الفكري فيها باحثاً عن طاقات مخبأة وراء المعاني لتزيد معها إدراكات والتقاطات السر المبعوث خلف ستار المبتغي.
لا فتور في محاولات سعدية، لكن هنالك تفاوتاً في بعض القصائد التي لم تحرك المخيلة تخريكاً كبيراً كما حدث في العديد منها، أو لم تصنع انسجاماً نظراً لفقد أنها للدهشة والموضوعية “نقوش على ذاكرة أم، وحده”، هنا الإطار المعماري العام يختلف فيه مع قوة القصائد التالية، وهذا ناتج على ما اعتقد إلى مزاجية الكاتبة، لكن المهم أن الاسقاطات الشعرية غير موجودة، وقلما قرأنا لكتاب جدد، بمستوى هذا المكتوب في “آخر الحالمين كان” في إضاءات عديدة في هذه المجموعة تغفر الخلل، لأنها تستطيع أن تعزل الكلمة وتبقى المعنى هارباً في فضاء الشعر، أنها مقدرة قلما نجدها في شعراء الحداثة، مما تسبب في جذبنا دون أن ندرك أو نتعمد ذلك، خاصة أن الكاتبة تغزل حكاياتنا وتحيك تفاصيل واقعنا اليومي والأني.
القبس (الكويت ) 1/9/1992