الرئيسية / دراسات عن التجربة (تجريبي) / آخر الحالمين كان لسعدية مفرح: الشعر يجعل الكلام دائما أخضر

آخر الحالمين كان لسعدية مفرح: الشعر يجعل الكلام دائما أخضر

اخر الحالمين كان« لسعدية مفرح

الشعر يجعل الكلام دائما أخضر

 

تتقمص القصيدة هيئة الروح وترفرف في فضاءات بعيدة تاركة حيوية النص على مقربة نبضة القلب، حتى إذا ما تعاركت الكريات فيما بينها خرجت القصيدة لتفصل بينها معلنة أن البداية كانت كلمة، وأن الكلمة انجبت العبارة فكانت القصيدة، هذا ما تخبرك به قصائد مجموعة سعدية مفرح»آخر الحالمين كان« إذ أن القصائد هنا تنفلت من قضبان الذات لتعتقل اللاشياء المحيطة بعالم الشاعرة، وتنكتب الحياة على باب الاعتراف بتلك المشاغبات التي تؤرق الروح المتوثبة دائما لصياغة خطاب ذاتي يستمد مفرداته من العالم المحيط.

فسعدية مفرح تفتتح بيانها الشعري بالهزيمة، لتسير من خلف استار الكلمات إلى انتصار يتحين فرصته للوثوب إلى الواجهة، هذه الواجة التي تشظى زجاجها تحت ضربات العاصفة التي اختارتها الشاعرة لتسكنها محاولة النفاذ منها إلى  عاطفة تتصارع معها لتهزمها وتسكنها، اذا إنها تحاول الانقضاض على هذا الكون لتمسك بكلتا يديها العاطفة المتأججة دائما بعواصف المشاعر والأحاسيس، لذلك تجد العاصفة لا تزال تضرب في الأمكنة البعيدة عندما تنتقل معها في قراءة قصائد المجموعة، فهي ساعة تؤرخ للمرأة الحالمة لفارسها الآتي من الجهة المباغتة، وساعة تحتج على يابس الوقت، لذلك تراها تقول:

»آخرهم كان

بانتحار الأغاني التي ايبستها رياح التحو،

انضجتها من فوق جمر التكون

آخر الحالمين كان

بقبح الكلام الشهي الذي حرمته القبيلة اذا قلدت فرسانها همهمات الغدو«.

في الشعر يبقى الكلام دائما أخضر، يورق ويذهر ليرمي ثمارا لها علاقة حميمة بالوقت الذي يكتب القصيدة بحبر العمر، والشاعر يرصد حركة روحة ليكتب عن هموم العالم إنها ازدواجية تكثف العالم في روح فرد واحد، وتكثف هذه الروح في قصيدة واحدة، فعندما تقول الشاعرة:

كان البحر يهرب خوفي

في زرقته

وكنت قصيدتك المنتهية

تؤجلني نحو البدء

منشغلا بقصائد يخشاها البحر

اذ يهرب في زرقة عينيها الشاعرتين

ويؤجل بدءه«.

فهي  تحاو أن تستخرج حشرجة ارواح معذبة كثيرة، ترمي همهمات اصواتها في امتداد البحر لتصطاد أمنية تقارب بتكوينها حلم القصيدة التي يخشى الشعراء دائما تحطمها قبل أن ترسو في ميناء الكتابة.

الشعر أو الأعمال الإبداعية بشكل عام ليست جثثا هامدة قابلة للتشريح، لأن هذه الأعمال تبقى حية متحركة في وجدان القاريء، وطالما أنها قادرة على اقامة تواصل فيما بينها وبين المتلقي فهي حية، لذلك يصعب تشريحه، ولا يمكن هدمها، انما هي قابلة للتفاعل، لذلك تكون القراءة نوعا من التفاعل فيما بين العمل الإبداعي والمتلقي له، وتخضع تفاصيل هذا العمل لكيفية التلقي عند القاريء. وتلقينا لنص سعدية مفرح يأتي من خلال ذلك التكثيف الرمزي لانشغالت الروح في رصد تفاصيل الوقت الذي تنكتب فيه قصيدة الشاعرة ، فهي عندما تضج بالاحتجاج تتوق الروح للهدوء، وتقول بوضوح تام ما تريده عبر صرخة التعبير التي تطلقها بوجه هذا الضجيج:

»صاخب كالهدوء

ناحل كطريق ترابية في النشوء

كان دافئا وضوءا واحتراقا

وغيابا حييا وسوقا للاماني

في مواسم للشراء

وكان كونا مميتا«.

هذا التعبير الموغل في الاحتجاج المتواري خلف الحاجة الملحة لجعل الاشياء رهينة الانفلات نحو ينابيع التحرر من تفاصيل الأسر التي انتجتها التراكمات التاريخية للحياة الاجتماعية التي نعيشها الأن، والتي ابتعدت في لحظة من اللحظات عن مساراتها الطبيعة فكرست أحيانا الشواذ كقواعد، والغت القواعد الاساسية واحالت قوة التعبير الإبداعي إلى قوة فاعلة في صيرورة تطور الإبداع، لذلك كانت الحداثة في شكل  من أشكالها تعني الخروج من دائرة اجترار الماضي واسقاطه على الواقع المعاش، ومحاولة التعبير عن هموم العصر بلغة شعرية قديمة، وهذا ما كان قد حدث في القرنين الثاني والثالث الهجريين عندما بدأت حركة الشعر العربي تدور في حلقة استرجاع المحاولات الشعرية القديمة واعادة أنتاجها على أرضية الحياة في ذلك العصر.

واللحداثة هنا المكرسة في هذا النموذج الذي نطالعه الآن ، تتحدث بلغة خاصة بهذا العصر الذي نعيشه، لكنها ليست مغتربة عن واق اللغة ومدللولاتا الحسية والشعورية أي انها محاولة ناجحة للاستفادة من قوة التراس كأساس بنيوي لعمارة الإبداع في الواقع المعاصر، وهذا التحديث في الشكل والمضمون يرتكز على تجربة شعرية عربية وإبداعية استطاعت خلال العقود الست الماضية أن تكرس ذاتها كمعالم واضحة في الإبداع العربي، وهنا لا ينفصل اللشعر عن باقي  الإشكال اللإبداعية الاخرى، في الوقت نفسه الذي لا يمكن اغفال قوة التراث في تشكيل الحداثة العربية على كل المستويات الإبداعية وفي الوقت ذاته لابد من الآخذ بعين الأعتبار  التفاعل الحضاري بين الحضارة العربية والحضارات الاخرى.

لقد فتحت لنا سعدية مفرح نافذة على حديقة الإبداع، وهكذا استطاعت الفكرة أن تنزلق من »آخر الحالمين كان« لتصل الحداثة والإبداع بشكل عام لتعيدنا في النهاية إلى صفحات المجموعة لنقرأ في الختام:

»اعطني إذن الرحيل

في فياففيك، ودعني

اسرج القلب واعدو

في صحار حاكها الله رمالا

من خيوط المستحيل«.

وها نحن نرحل في جهات الإبداع نبحث عن صورة متجدد دائمة ومنسوجة من خيوط الشعر

 

»اخر الحالمين كان« صادر من دار سعاد الصباح، يقع في 105 صفحات من القطع الوسط، للشاعرة الكويتية سعدية مفرح

 

جريدة الخليج – العدد 5155 – 23 يونيو 1993

عن Saadiah

شاهد أيضاً

23.عائشة صيام ،انطباعات

انطباعات   عائشة صيام من كل هذي الريح اخترت عاصفة هزمت لأسكنها.. من كل هذا …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *