الرئيسية / مقالات سعدية مفرح / “أغرار” ناصر… الوجع والخذلان

“أغرار” ناصر… الوجع والخذلان

افتتح ناصر الظفيري الكمين الأول لروايته “أغرار” بهذه الجملة؛ “توقف المطر بعد ساعاتٍ من هطوله المفاجئ في بداية الموسم. تماوجت سنابل الشعير واخضرّ الندى على حقل البرسيم”. وافتتح كمينها الأخير هكذا؛ “توقف المطر بعد ساعاتٍ من هطوله. تماوجت سنابل الشعير واخضر الندى على حقل البرسيم”، وبين الفقرتين مائتان وست وعشرون صفحة من القطع المتوسط، حاول فيها الظفيري الذي كان يومها يفكّر في مغادرة وطنه نحو المهجر أن يلخص فلسفته المبكرة في الحياة ومقاديرها وأحوالها، عبر شخصيات أليفة وحميمة. ولأن هذه الرواية كانت نوعا من النزق الكتابي المفتوح على جراحه الشخصية تحديدا، فقد أهداها عندما نشرها لاحقا، وهو في غربته، إلى أفراد عائلته الصغيرة؛ “إلى رفقاء الغربة وندماء الطريق: بدر أماني، ريم، وأمهم”.
وعلى الرغم من أنني كنت قد قرأت الرواية مخطوطة، كما كتبها ناصر، رحمه الله، بخطه الجميل وقلمه الرصاص، ثم قرأتها بعد أن نشرها، إلا أنني عدت إليها أخيرا عندما قرّرت مكتبة صوفيا بلفتة وفاء جميلة من القائمين عليها أن تعيد نشرها، إذ طلبوا مني أن أكتب كلمة قصيرة لتنشر على الغلاف الأخيرة من الطبعة الجديدة لها.
لم أتردّد أبدا في الموافقة، ليس لمكانة الكاتب الراحل في نفسي وحسب، ولا أنني كنت شاهدة على مراحل كتابته هذه الرواية، وما كان يكابده من أوجاعٍ نفسيةٍ كانت تمزّق روحه بين الخيارات القليلة المتاحة له، كي يكمل الطريق وحسب أيضا، بل تعزيزا لما تؤدّيه مكتبة صوفيا من دور جميل على صعيد الإحياء والوفاء، على الرغم من حداثة عهدها في عالم دور النشر العربية.
قرأت الرواية مجدّدا، أو لعلي تصفحتها تصفحا، إذ كنت أفوت بعض الصفحات في أثناء القراءة، لشدة مألوفيتها بالنسبة لي، في حين بدت لي بعض الصفحات الأخرى وكأنني أقرأها للمرة الأولى. يحدث لي هذا كثيرا عندما أعود إلى قراءة كتاب سبق وأن قرأته قبل سنوات على سبيل المثال. في قراءتي الثالثة لـ”أغرار” ناصر الظفيري، كان المؤلف حاضرا بيني وبين سطورها. لم أستطع الفكاك من أسر الذكريات والجلسات والمحادثات والرسائل. كنت كمن يفتش بين السطور عن أحاديث ضاعت وذكريات ذابت، ورسائل تضاعفت قيمتها لدي الآن، بعد أن رحل مرسلها لتبقى على ما كنا نتبادله من آراء.
في حياة ناصر، كنت دائما قاسية في قراءاتي كل ما يكتبه ويعرضه علي. وكان يقبل كل ملاحظاتي بترحابٍ شديد وامتنان آسر. فماذا عساني أكتب الآن، بعد رحيله الذي اعتبرته رحيل جيل كامل.. جيلنا، بكل ما واجهه من خذلان؟
كتبت في كلمتي أن “أغرار”.. رواية ناصر الظفيري الثالثة، ووجعه الكتابي الخامس، بعد روايتين ومجموعتين قصصيتين، إذ صدرت طبعتها الأولى في عام 2008، حاملة بين طياتها أسئلة مرتبكة حول معنى الوجود الإنساني المطلق عبر شخصيات تخضع لمفهوم الذكورية الشرقية بكل صوره وتجلياته.
كان ناصر الظفيري قد كتب هذه الرواية التي يعاد نشرها الآن بعد رحيله، في الكويت، أي قبل أن يهاجر إلى كندا في عام 2001، لكنه احتفظ بها مخطوطةً سنوات طويلة. وحين قرّر أن ينشرها، في عام 2008، كانت الغربة قد بدأت مشروعها الحقيقي باستهلاكه عاطفياً، فلم تعد “أغرار” سوى ذكرى من ذكريات الوجع القديم، والذي كان يتجدّد عبر أسئلة الحنين المتاحة له في غربته المتقطعة، يوماً بعد يوم وكلمة بعد كلمة.
في رواية “أغرار” نجد الجذور الأولى للحكايات التي نبتت لاحقاً على أغصان شجرة الألم في كل روايات ناصر التالية لها. ولهذا هي تستحق أن يعاد نشرها الآن، لتكون دليلاً وجودياً، على طريق الوجع المستمر، لكل أغرار هذا العالم.

 

(العربي الجديد/28 نوفمبر 2019)

عن Saadiah

شاهد أيضاً

لوحة للفنان أسعد عرابي

هل سأنجو هذه المرّة أيضاً؟

سعدية مفرح/ تنقذني الكتابة، ولو مؤقتاً، من الغرق في لجة الكآبة ومجاهيل الاكتئاب. فمنذ أن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *