كأسماء البشر تبدو للقراء عناوين الكتب. ورغم أنني أصدق فيروز وهي تصرح بأن «أسامينا هني عينينا»، إلا أنني لا أصدق أن عناوين كتبنا هي عيون هذه الكتب دائماً! وإن كانت كذلك فهي أعين تجيد التصنع والخداع، وكم خدعنا بعنوان كتاب أفضى إلى ما لا يشير إليه عنوانه. لست أدعو بأن يفضح العنوان الموضوع الذي يتناوله الديوان الشعري أو الرواية أو أي كتاب آخر مباشرة، لكنني أستهجن فكرة العناوين الخداعة التي تحاول أن تقود القارئ، خصوصاً غير المحترف إلى ما لا يريد.
أحب العناوين اللافتة، أحبها لوحدها أحياناً، وبمعزل عن فكرة الكتاب. لكنني أستهجنها كفكرة متكاملة إن كانت من تلك العناوين (أو العنوانات!) الخداعة الكاذبة كذباً مبيناً. لطالما احتفظت ذاكرتي بعناوين آسرة بدت لي لحظة اكتشافها كقصائد منفلتة من محيطها اللغوي والشعري، وأذكر على سبيل المثال، أنني عندما قرأت عنوان مجموعة شعرية قديمة للشاعر قاسم حداد كخبر عابر في صحيفة ما يومها، أخذت تماماً باللحظة الشعرية المحيطة بالعنوان؛ «يمشي مخفوراً بالوعول»، ولم أعد أفكر إلا بتلك المشية الفارهة التي اقتنصتها موهبة الشاعر لتكون عنواناً لمجموعته الشعرية فتأخذني إلى حيث أريد أنا لا إلى حيث يريد الشاعر ربما!
كلما حانت لحظة اختيار عنوان لكتاب جديد لي، أو حتى قصيدة، أستعيد لذتي القديمة في حضرة الشاعر الذي كان يمشي مخفوراً بالوعول في غابة الكلمات، لعلي أكتشف مشية أخرى في غابة أخرى لم يكتشفها أحد قبلي!
لا أدري إن كنت قد نجحت ولو جزئياً أم لا، لكنني عموماً لا أعتمد نهجاً ثابتاً في اختيار عناوين كتبي وقبلها قصائدي. أحياناً أختار العنوان أثناء الكتابة وأحياناً قبلها وأحياناً بعد الانتهاء منها، وربما اخترت عنواناً لقصيدة أو مقالة أو كتاب قبل الانتهاء من العمل ثم غيرته لاحقاً. مثلاً؛ «تغيب فأسرج خيل ظنوني»، عبارة اخترتها عنواناً لقصيدة لم أكن قد كتبتها بعد، وبقي صدى العنوان يتردد في داخلي إلى أن تشكلت القصيدة وبعدها بثلاث أو أربع سنوات ظهرت تلك العبارة على غلاف مجموعة شعرية! وعلى العكس من ذلك عنوان كتابي «هذا الجناح جناحي» الذي لم أختره إلا قبل أن أدفع بمسودة الكتاب إلى الناشر عبر الإيميل بدقائق قليلة فقط.. أتى هكذا بلا تخطيط مسبق ولا استشارة من أحد. قرأت مقدمة الكتاب مرة أخيرة وخرجت بالعنوان وكأنني أشير إلى جناح طائرة محلق في السماء مندغم بجناح طائر.. كان جناحي أنا بالفعل.. وأصبح عنوان كتابي. أما في كتاب «مجرد مرآة مستلقية»، فقد احترت بين ثلاثة عناوين واستشرت أحد الزملاء الشعراء. استعرض هذا الزميل العبارات المقترحة وأضاف كلمة لإحداها.. وتكون العنوان. هل هذا هو الإلهام؟ أم أنها لحظة قرار واع؟ لعلها خليط بين هذا وذاك، على أنني أهتم بقراءة العناوين في ما أقرأ وأعتبرها عتبات النصوص ومفاتيحها الأولية. أنفر من العناوين المغرية حد الانكشاف والعناوين التي تأتي بأنساق جاهزة ومتوقعة، وتجذبني العناوين التي تحيل إلى الكثير من الأسئلة. على أية حال، القراءة كلها سؤال مفتوح.
(مجلة اليمامة /28 يوليو 2016)