فجأة.. لاحت الذكرى القديمة فانتفض القلب كعصفور بلله ماء الشجن.. هذا بالضبط ما يسمونه الحنين.
يسمونه الحنين ويقصدون به ذلك الألم الممزوج باللذة والذي يتصاعد من قاع القلب الى سقفه في واحدة من الرحلات النادرة.
لماذا يرتبط الحنين بالماضي وحده؟ لماذا لا نشعر بالحنين للغد مثلا؟ ماذا يسمون ذلك الوهج اللامع ما بين دمعة ساكنة وابتسامة خجلى لصبية على قارعة الانتظار؟ يسمونه الأمل الذي هو الحنين للغد.
والحنين جوهرة الليل.. فلا وقت في النهار لوردة تبكي وتضحك في الوقت نفسه، وهو خط متعرج بين وردتين، وهو ترضية القدر للخاسرين، وهو ذكرى غابرة مضت.. ومازال يتعالى في إثرها الأنين.
والحنين بضاعة المفرطين في الهوى والنوى.. نتأرجح في ذلك الفراغ الكبير بينهما حيث نميل الى الهوى مرة ، والى النوى مرة ، وما نعلم أنهما واحد أحد ونحن وحدنا الخاسرون.
هل يظهر الحنين في ليل الشجن فعلاً؟ أم أن الليل يأتي إليه ليغني من فيض غواياته حداءً للروح..فلا يفطن لذلك الغناء أولئك الخاسرين؟
يوزع الحنين في لياليه النادرة أحلامه على الساهرين بكرم لا محدود.. ويمضي
لفقد منتظر.. ليعلمنا الدرس الأول في الشجن.
في الرسائل القديمة نوع صامت من الحنين، تربته الكلمات وسقايته الذكريات.
ياحنيني المتصاعد على مدى الكلمات والذكريات… توقّفْ أرجوك، فليس لكلماتي مدى ولا لذكريات أفق..ككل الأشياء الميتة.
حنيني لنظرتها الزعول.. لا يشبه أي حنين. لمن تنظر تلك النظرة الآن يا ترى؟ أنا ملاكها الوحيد.. كنتُ.
وحنيني لنظرته الحنون.. لا يشبه أي حنين. لمن ينظر تلك النظرة الآن يا ترى؟ أنا شيطانه الوحيد ..كنتُ.
كانت تتجسد أمامي كل مساء حديقة من فرح وحنين، لكنني كنت أخاف أن تتصرم كلما رأيتها تودعني بدعائها الموغل في الحزن. قلت لها: فكي قيدي، فتحولت الى غيمة وهطلت على أرض الجنة.. حيث غابت للأبد.
وكان يتجسد أمامي كل صباح غابةً من حب وحنين، لكنني كنت أخاف أن أضيع في دوربها المظلمة..قلت له : امنحني قليلاً من ضوء، فتحول الى شمس.. غابت للأبد.
وحنيني لك يكوي أضلعي(أم كلثوم). أنا عندي حنين.. مابعرف لمين(فيروز). وليس لحنيني عنوان غنائي، ولا شعري، فهو حنينّ سادرٌ في الغياب.. كنت أظن أنه سيقودني نحو اليقين يوما ما، لكن لا جدوى ولا يقين.
وحده حنيني يتظاهر كل ليل في ساحة الروح معلنا العصيان على كل جدوى وكل يقين.
لا يطفئ شوق الحنين كلام عابر ولا حديث ساهر.. هو أعلى وأغلى، وهو أكثر قدرة على اتخاذ كل القرارت المؤجلة بما فيها القرارات السرية للانتحارات البطيئة.
الحنين إذاً.. طريقٌ مؤكد واضح المعالم لأجمل هلاك، مقدمة لشوق قاتل، وهامش أكثر أهمية من أي متن يمكن أن نتكئ عليه ذات وهن.
قل يا أيها الحنين.. إنك قد تفيض عن الشغاف.. فيكون الأنين… وأي أنين!
(القبس/ 3فبراير 2013))