الرئيسية / مقالات سعدية مفرح / أنف واحد يشمّ ماء الموهبة
من معرض استعادي لمودلياني
من معرض استعادي لمودلياني

أنف واحد يشمّ ماء الموهبة

“أربعون نصيحة لكتاب المستقبل” عنوان موضوع صحافي طريف في مجمله، على الرغم من جديته الخفية، أعدته صحافيتان فرنسيتان، ونشر في أحد الأعداد القديمة لمجلة لير الفرنسية، قبل أن تنشره بعد ترجمته إلى العربية مجلة الثقافة العالمية الكويتية.

والموضوع، كما يدل عليه عنوانه، أربعون نصيحة، يوجهها أدباء كبار ومشهورون لمن يود ولوج عالم الكتابة. وهي منتقاة في أغلبها من أحاديث صحافية، أدلى بها هؤلاء الأدباء الكبار في فتراتٍ مختلفة من حياتهم، وبعضها مستلٌ من كتب لهم.

وبغض النظر عن مدى الجدية التي يعامل بها هؤلاء الأدباء موضوع النصيحة المباشرة التي يمكن أن يقدّموها لكتّابٍ ناشئين، تبدو نصائحهم تلك ربما من حيث لم يحتسبوا أكثر طرافةً من موضوعها الحقيقي، حتى وهي تتناول قضايا كبيرة، وأسئلة اعتدنا أن تكون بلا إجاباتٍ واضحة أو محدّدة، أو حتى بلا إجابات على الإطلاق، أو تتناول قضايا يومية صغيرة، ربما تتعلق بما تسمى طقوس الكتابة أو بما يحيط بالكتابة، وليس بها هي، كأن يكون موضوع النصيحة على صعيد القضايا الكبيرة.. مثلا؛

“كيف يمكن أن تنشأ فكرة رواية؟”، أو “كيف تبدأ؟”، أو “هل يتعيّن اختيار وجهة نظر؟”، أو “كيف يكون التوفيق بين دقة الشكل والحساسية؟”، أو “ما الموهبة؟”، أو “هل يجب أن تتفق الكتابة مع الذوق السائد؟”… إلخ.

أما على صعيد القضايا اليومية الصغيرة، فتبدو المسألة، بالنظر إلى إجاباتها المتوفرة، أكثر طرافة، ولكن أكثر واقعية أيضا، كأن يكون موضوع النصيحة مثلا؛ “ماذا تلبس؟”، أو “كيف تكون كاتبا رومانسيا؟”، أو “كيف يكون رد الفعل إزاء رفض الناشرين؟”، أو “هل يستطيع الكاتب أن يخالف علامات الوقف؟”.. إلخ.

ونصيحة كاتب كبير لكاتب ناشئ تبدو هي موضوع السؤال المفضل، ربما بابتذال أحيانا، للصحافيين، لولا أن استجابة أي كاتبٍ حقيقي لمثل هذا السؤال غالبا ما تخيب ظن السائل، وتودي به، في أرقّ صيغها، إلى مهاو بعيدة عمّا تتطلبه صيغة السؤال المحدّد، ربما لأن الكاتب، أي كاتب، لا يملك هذه النصيحة الجاهزة، ربما لأنه لا يشعر بامتلاكه لها في حالة امتلاكه لها، ربما لأن ذاتيته التي تتصل بمعنى فكرة الإبداع لديه تمنعه من بذل مكنوناته الإبداعية التي يمتح من معينها السري.. هكذا لمجرد نصيحة كاتب ناشئ غير قادر على اكتشاف الطريق إلى البئر البعيدة، عبر رائحة الماء الخفية، والتي تسمى في شكلها السهل المبتذل بالموهبة.
ربما لذلك كله، وربما لأسباب أخرى أيضا.

لكن الموضوع الصحافي المشار إليه ينجح تماما في تجميع قدر معقول من أسماء كتاب العالم المعاصر الكبار في استجاباتٍ مقترحةٍ تنأى بنفسها عن سهولة الإجابة على السؤال الصعب، وتحاول اكتشاف علمها الخاص لذاتها، وكأنها تقول؛ ولكن هذا الطريق الذي أدلّك عليه، أيها الكاتب الناشئ، قد سلكته وانتهى الأمر، لا يوجد كاتبان يسلكان الطريق نفسه، عليك إذاً البحث عن طريق آخر.

وغالبا ما يجد الكاتب الحقيقي الطريق الآخر.

وغالبا ما تكون لماء الموهبة الحقيقية رائحة سرّية، لا يشمها سوى أنف واحد.

 

(العربي الجديد 7 مارس 2019)

عن Saadiah

شاهد أيضاً

لوحة للفنان أسعد عرابي

هل سأنجو هذه المرّة أيضاً؟

سعدية مفرح/ تنقذني الكتابة، ولو مؤقتاً، من الغرق في لجة الكآبة ومجاهيل الاكتئاب. فمنذ أن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *