الرئيسية / مقالات سعدية مفرح / أين تذهب ذكرياتنا؟

أين تذهب ذكرياتنا؟

31 مايو 2018

إلى أين تذهب الذكريات التي ننساها؟ في أي مستقرٍ تستقر الوجوه التي تغيب، والأسماء التي تختفي، والأصوات التي لا نعود نعرفها؟ هل تموت فعلا؟ إن كانت ميتة فعلاً، كيف تنهض من غبار الموت، لتعود بكامل لياقتها أحيانا فجأة، بمجرد أن يطرأ طارئ عابر، بهيئة أغنيةٍ منسيةٍ، أو عبارةٍ في كتابٍ قديم.. أو نفحةٍ من عطر مجهول المصدر؟

حاولت أمس فتح رسالةٍ عالقة وصلت إلى هاتفي عبر تطبيق الواتساب، ففوجئت بأنها لا تفتح. وبعد عدة محاولات، وصلت إليّ رسالة من نظام الهاتف الصغير، تقول لي إن مساحة التخزين في الجهاز ممتلئة، ولم تعد توجد فيه أي مساحة تخزين كافية لتلقي رسائل جديدة لاستخدام تطبيق واتساب، وسيكون الحل عبر توفير مائة ميغابايت من المساحة الفارغة، بحذف التطبيقات التي لم أعد أستخدمها، أو الصور ومقاطع الفيديو وغيرها من مواد يمتلئ بها الجهاز.

عدت أتفحص هاتفي، فوجدته يكاد يميز من الغيظ، بسبب ما في جوفه من مواد، فألبوم الصور وحده يحتوي على ما يزيد عن ثمانية آلاف صورة، بالإضافة إلى بضعة آلاف أخرى من مقاطع الفيديو. أما رسائل الواتساب، فلم أستطع حتى مراجعتها، لأعرف حجم المساحة التي تحتلها من ذاكرة هذا الجهاز المسكين، فبالإضافة إلى رسائلي الأثيرة، والتي لا يطاوعني قلبي على حذفها، وأشعر أن أصابعي ستصاب بالشلل، قبل أن أفكر في التخلص منها، حتى وإن كانت مجرّد كلام يومي وعادي. هناك عشرات من مجموعات الدردشة التي أجدني قد أصبحت عضوا فيها من دون أن أعرف لماذا، وأحيانا من دون أن أعرف من يديرها، ومن أعضاؤها، وهي ممتلئة دائما بدردشاتٍ تتناسل من بعضها بعضا، بما يتحدّى قدرتي على التصدّي الفوري لها أحيانا.

وهناك رسائل تأتيني من أرقام مجهولة لي. ولأنني أؤجل الرد عليها، حتى أجد الوقت الكافي والمزاج الذي يسمح لي بسؤال أصحابها عن هوياتهم، تراكمت حتى سدّت كل مسامات التنفس في جهازي المنكوب بها، وبغيرها من مواد أخرى، كالمقالات ومسوّدات المقالات في تطبيقات الكتابة، والملاحظات التي أكتبها، لكي تذكّرني بأشياء معينة فأنساها، قبل أن تتم مهمتها، والأرقام المجهولة المسجلة في هاتفٍ بلا أسماء، وتطبيقات كنت أنزلها لتجريبها، فأكتشف أنني لا أحتاجها، لكنها تندس في فراغات الذاكرة الإلكترونية وتغيب مؤقتا، وبعضها لم أحتجها سوى مرة أو مرتين طوال سنة كاملة، هي عمر الجهاز، ومع هذا أحتفظ بها. أما الكتب التي وجدتها في الجهاز فليست كثيرة، ذلك أنني أفضل استخدام جهاز الموبايل في القراءة، بدلا من جهاز الآيفون.

أصابتني جولة سريعة على محتويات الموبايل بالصداع، حتى قبل أن أبدأ في مرحلة التنظيف والترتيب، لتوفير المساحة المطلوبة لتلقي الرسائل. تعكّر مزاجي العام، وشعرت بضيقٍ في صدري، ولحظات اختلط علي الأمر ما بين الزحام الشديد الذي وجدته في الجهاز أمامي والزحام المشابه له في رأسي.. لا بد أنني أحتفظ في رأسي بمثل هذا الذي أراه الآن أمامي، وكاد أن يتسبب في عطل الجهاز، بعد أن عطل بعض وظائفه الأساسية.

بعد ثلاث ساعات متواصلة من التفتيش في الخبايا، شعرت بتحسنٍ واضحٍ في مزاجي العام، وخف ألم الصداع كثيرا، بل اختفى في نهاية الأمر. وفي كل مرةٍ، كنت أنجح في توفير مساحة إضافية، أشعر بفرح غامر وخفةٍ أكاد أطير معها.. ما شجعني على التخلص من معظم محتويات الجهاز، حتى تلك التي كنت أظن أنها مهمة، ولا يمكن الاستغناء عنها.

نعم.. اكتشفت هناك كثيرا من الصور والذكريات والأرقام والمقالات والأسماء والكتب والمحادثات والرسائل التي يمكن حذفها بسهولة، وهذا ما فعلته بحماسٍ في النهاية، ما جعل هاتفي يتنفس الصعداء، ويبدو كأنه استعاد عافيته، بعد أن تخفّف من كل ما أثقله، وأبطأ سرعته، وأضعف قدراته في أداء كثير من مهامه.

ليس أمامي الآن سوى تكرار التجربة في ذاكرتي.. إن استطعت.

(العربي الجديد)

عن Saadiah

شاهد أيضاً

لوحة للفنان أسعد عرابي

هل سأنجو هذه المرّة أيضاً؟

سعدية مفرح/ تنقذني الكتابة، ولو مؤقتاً، من الغرق في لجة الكآبة ومجاهيل الاكتئاب. فمنذ أن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *