أشعة الصباح تسللت لغرفتها الواحدة تلو الأخرى مُعلنةً بداية يوم جديد من الحياة. حركت رهف رأسها تنظر للنافذة بشوقٍ كبير لوجه السماء الرَّحب الذي بدأ يزداد زُرقةً بهيّة والطيور تُحلق في أعالي السماء. صوت زقزقة العصافير على الأشجار القريبة خارجاً أبهج قلبها. كانت طريحة الفراش، تتنفس بصعوبة على جهاز التنفس الصناعي.هبط طائرٌ مُحلّق ووقف على النافذة مُغرداً بصوت شجيّ. غالبتها دموعٌ اختلطت بين فرح وحُزن، ضيفٌجميل مُغرد أتى يؤانس وحشتها مع صراع الحياة الذي اشتد لأسابيع.
تذكرت أياماً العافية، أياماً اجتمع حولها الكثير من الناس، ولكن أين هم اليوم؟رحل الجميع خوفاً! رحل الجميع أمراً! لم تَعُد تدرك الحقيقة، لم يَعُد أحداً بجانبها، سوى والدتها التي لا تستطيع الاقتراب رغم إصرارها وبكائها المرير،ولكن القوانين صارمة، فسلامة الجميع واجبة. لم تكن رهف تُفكّر في شيء سوى رسالة سؤالٍ صادقةٍعن حالها، لا تريد شيئاً سوى شعور الوجود، شعور الحياة الذي تفتقده كثيراً وهي مُمَدّدة على فراش المرض الذي باغتها فجأة، باغتها لأنانية أحدهم وتكبُّرِه على الوباء، حتى سقط وأسقط الجميع.
رحل الطائر المُغرد بعد دقائق، وخيّم هدوءٌ باهِتٌ أجواء الغرفة، بَهَتت معه ألوان الحياة، مع صوت الأجهزة الطبّية الرّتيب، وجهاز التنفس العالق يُهديها الحياة بما يملك من هواء. نظرت لسقف الغرفة في المستشفى، تذكرت كيف استقبلت نبأ مرضها، وهي تجلس على مكتبها أمام جهاز الحاسوب، مُنهكةً تُقاوم الألم، تُنهي تقريراً وُجب عليها تسليمه لجهة العمل بأسرع وقت.
وصلت رسالة إلى هاتفها الموضوع على كومةِ كُتبٍ مُبعثرة على يسار المكتب، نظرت إليه، تحاول فهم تلك الكلمة، عادت تقرأُها مراراً وتكرّرها، حتى اجهشت بالبكاء.”إيجابية” كلمة تحمل الكثير من معاني السعادة والأمل والحياة، لكنّها باتت تحمل في تلك الرسالة الكثير من معاني الألم والمرض والموت. تضاد غريب لكلمة واحدة. تذكرت والدتها واجتاحتها مشاعر القلق المريرة، فلا أحد لها بعد الله سواها. من سيعتني بكبيرة السن الطيبة، من سيكون معها؟ هل وصل لها الوباء أيضاً؟
تساؤلات عدّة لم يجعل لها الوباء وقتاً، حتى دخلت غرفة العناية المركزةوخرجت منها بعد أيام، تنظر لتلك النافذة، تبحث عن بشائر الحياة في شوق لأيام العافية.لم تُدرك وقتها، قبل المرض، لزحام الحياة وكثرة أعبائها، كم هي جميلة تفاصيل الحياة الصغيرة، كم هو جميل تنفس الهواء بلا أنبوب صناعي، كم هي عظيمة نعم الله علينا.
ترتبّت الأولويات تلقائياً في ذاتها، فالعودة للحياة لم يكن بالأمر الهيّن. أيقنت رهف أن باطن المِحَن مِنَح، فما هي إلا أيام شديدة أزالت شوائب الحياة المُترفة عنها، وأعادت نقاء الحياة وقيمتها الحقيقية في داخلها.وتبدل معها الكثير، الكثير من الناس، والكثير من المشاعر والذكريات.