الرئيسية / مقالات سعدية مفرح / التغيير.. وأسطورة العرّاب

التغيير.. وأسطورة العرّاب

كما فوجئ كثيرون من الأثر الكبير جدا الذي أحدثه رحيل الكاتب المصري أحمد خالد توفيق، قبل أزيد من عام، على وسائل التواصل الاجتماعي، فاجأهم، مرة أخرى الاثنين الماضي، محرّك غوغل العالمي الشهير وهو يحتفي بذكرى ميلاد هذا الكاتب في حدثٍ لم يفعله المحرّك البحثي الشهير إلا مرات قليلة مع أدباء وفنانين عرب كبار جدا. عنصر المفاجأة أن توفيق لم يكن من الكتّاب المكرسين في المشهد الثقافي النمطي على الصعيد العربي، وجاء احتفاء “غوغل” الاستثنائي به ليعرّف عليه من لم يكن يعرفه فعلا، فقد سجّل هذا المحرّك دخولا غزيرا من مرتاديه على الصفحة التي وضعت للتعريف بالكاتب.
وأحمد خالد توفيق الذي قال، في مقابلة صحافية أجريت معه قبل رحيلة بفترة وجيزة، إنه يكتب للحفاظ على استقراره العقلي، كان يعمل طبيبا، لكنه اشتهر بقصصه القصيرة التي فتحت بوابة القراءة أمام جيلٍ صغيرٍ لم يكن يجد ضالته من الكتب في المكتبة العربية الفقيرة بالكتابات المخصّصة للناشئة والشباب. ومن الواضح أن هذا هو السر الأول في سرعة انتشار كتب توفيق بين الشباب، منذ أصدر أول كتاب له بحجم صغير عام 1993 “مصاص الدماء” في سلسلة عنوانها “ما وراء الطبيعة”، جعلت منه نجما بين قرّاء لم يكونوا يعرفون من عالم القراءة والكتب سوى كتب المناهج الدراسية، فجاء من أطلقوا عليه لقب “العرّاب”، ليقودهم، عبر حبكات قصصه الغامضة، والتي يجاري فيها غوامض ما يواجهونه من مجهولٍ في أعمالهم الغضّة إلى عالم القراءة والكتابة أيضا. وبعد سلسلة “ما وراء الطبيعة”، أنشأ هذا الكاتب سلاسل أخرى، تميزت بالغزارة المعرفية والنسج الروائي ذي الطابع المشوّق المليء بالمفاجآت، بالإضافة إلى المتعة السهلة والموشّاة بدروسٍ تربوية كثيرةٍ غير مباشرة.. ومن هذه السلاسل “فانتازيا” و”سفاري”. ولم ينشغل العرّاب الذي انكبّ على الكتابة الغزيرة، بعيدا عن الأضواء الكاشفة، بما يكتبه وحسب، بل اقتحم مجال الترجمة من اللغة الإنكليزية، مختارا منها ما يناسب أسلوبه في التشويق والغموض النابع من رعب الأحداث، بعدما تمكّن من تلك اللغة، والتي كان ضعفه فيها بوابته نحو الرعب في كتاباته الأولى في بداياته، كما صرّح في واحدةٍ من مقابلاته لاحقا، إذ قال: “لم تكن لغتي الإنكليزية جيدة بما يكفي لقراءة أدب الرعب، لذا بدأت في كتابته بنفسي”!
عندما رحل، رحمه الله، في إبريل/ نيسان 2018، وامتلأت مواقع التواصل الاجتماعي يومها بالحديث عنه، مقرونا بصوره وعناوين كتبه ورواياته، سألني روائيٌّ معروفٌ عنه، مستغربا أن يُحدث رحيله كل هذه الجلبة بين الشباب في بلدان عربية كثيرة، وليس في مصر وحسب، فقلت له إنه كاتبٌ عرف الطريق السري المؤدي إلى قلوب الناشئة، فولجه بلا كبر ولا ادعاء.
يومها لم أكن قد قرأت له شيئا من كتبه الكثيرة، لكنني كنت أعرف الكثير عن هذا الكاتب، وأعرف إلى أي مدىً قد تغلغلت قصصه الصغيرة الساحرة في وجدان الناشئة والشباب أيضا. اكتشفت حجم شعبيته الهائلة لديهم، حتى أصبحوا ينظرون إليه أسطورةً حقيقية، من خلال احتكاكي بالقرّاء من طلبة الجامعة، ومن دونهم في العمر أيضا، في بعض الدورات التي كنت أقدمها. كنت دائما أُسأل في لقاءاتي معهم عن رأيي بأدب أحمد خالد توفيق، وأحيانا عن روايات وقصص محدّدة مما اشتهر له. كنت أشعر بشيءٍ من الخجل، لأنني لم أكن أملك أجوبة كافية للأسئلة المتلاحقة عن هذه الشخصية شبه الغامضة لي فعلا. وعندما رحل بعد نحو ربع قرن من الكتابة، وهو عمرٌ قصير نسبيا، بكل هذا الزخم الهائل من التأثير في الوجدان الشبابي الغض، تأكّدت أن مكانة الكاتب لا تُقاس بما يُكتب عنه، ولا بما يناله من جوائز، ولا بحجم الرضا الذي تمنحه السلطة له.. ولكن بما يُحدِث من تغيير، وكان أحمد خالد توفيق من الذين أحدثوا التغيير!

 

(العربي الجديد / 13 يونيو 2019)

عن Saadiah

شاهد أيضاً

لوحة للفنان أسعد عرابي

هل سأنجو هذه المرّة أيضاً؟

سعدية مفرح/ تنقذني الكتابة، ولو مؤقتاً، من الغرق في لجة الكآبة ومجاهيل الاكتئاب. فمنذ أن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *