الشعر لا يموت، لكن الشاعر، وهو حي، يموت ويشبع موتاً أيضا، على الرغم من خلود فكرته واسمه شاعرا. أما الموت المقصود هنا فهو توقّف الموهبة لديه عن التقدّم إلى الأمام قيد أنملة. كأن يصحو هذا الشاعر من النوم ويكتشف أن مخزون الإبداع لديه قد انتهى، وأنه لم يعد قادرا على إنتاج نص جديد. وكأن يعود إلى واحد من نصوصه الشعرية القديمة، فلا يكاد يصدّق أنه هو من كتب هذا النص، ذلك أنه لم يعد الآن قادرا على كتابة نص مثله، ولعله لا يكتشف تلك المعلومة، إلا إذا تنبّه إليها آخرون حوله، ونبّهوه لها. هذا حدث كثيرا وما زال يحدث فعلا.
يحدُث أن تجفّ منابع تلك الموهبة السحرية المدهشة عن التدفق في عروق الكلام، قد تقف فجأة عن السير.. أو تتلاشى تدريجيا إلى أن تحين اللحظة الحاسمة، فينتهي كل شيء، حتى ليبدو الأمر وكأنه حدث فجأة. ذلك لأن نشوءها أساسا في ذات المرء بلا منطق في ذاته، وبلا أسباب ولا مسببات مرئية، وربما بلا دوافع ولا أهداف أيضا، فلا يجد الشاعر أمامه في تلك الحالة إلا أن يستسلم فيعيش على هوامش من مجده الشعري القديم، وأطراف قصائده المتحققة المنجزة، وما تبقى له في جعبة الموهبة من لغةٍ وصور وتراكيب، وغيرها من مادة الشعر الخام، أو يتجاهل الأمر. وهذا هو الغالب في معظم التجارب التي رصدتها، فلا يعترف لنفسه أنه انتهى شعريا، فيحاول معاندة منطق الموهبة، ويبقى على قيد الكتابة، حيث يبدأ في التعامل مع وضعه الجديد بحيل كثيرة مكتسبة بالخبرة، سرعان ما يكتشفها المتلقي الحقيقي. لكن أسوأ ما يمكن أن ينتهي إليه أن يتعامل مع مواته الشعري، وكأن الآخرين حوله مسؤولون عنه، أو كأنهم قتلة حملوا بنادقهم في غفلة منهم، وصوّبوها تجاه موهبته الساكنة بين ضلوعه، فأردوها قتيلة وتركوه أعزل إلا من أوهامه. وهذا يفسّر لنا الحالة المؤسفة التي يعيشها بعض الشعراء، عندما يجد نفسه بصدد الموات الإبداعي، فيحاول أن يشغل نفسه غالباً بمحاربة الآخرين الذين ما زالوا على قيد الموهبة والإبداع، لأنه غير قادر على مواجهة هذه الحقيقة الموجعة له!
وبرصد حالات حقيقية على أرض الواقع المعاش، نكتشف أدوات أخرى يستعين بها الشاعر الذي انتحرت موهبته للبقاء في دائرة الضوء المزيف؛ كالركض وراء كل برق خلب، والانسحاق التام تحت وطأة الموهوبين الجدد، بحجة رعايتهم والاهتمام بهم، والتآكل الذاتي بما يشعله من نيران حوله، وافتعال المعارك التافهة التي لا يقوى على التصدّر في غيرها، واختلاق القصص الكاذبة التي لا تصلح إلا لتكون مادةً لحفلات النميمة الجماعية في مقاهي الخيبة، وبناء جدار يلصق عليه كل نجاحات الآخرين وإنجازاتهم، خصوصا ممن ينتمي إلى جيله، باعتبارها أسبابا لفشله وعجزه.. ومواته غير المعترف به ذاتيا.
ماذا على الشاعر الحقيقي أن يفعل في تلك الحالة؟ عليه أن يواجه الأمر، أن يكتفي بما له من قصائد، أن يقرأ، أن يكمل حياته كقصيدة غير مكتوبة.. أن يفعل أي شيءٍ يعينه على المواجهة، بدلاً من الانتقام الرديء من زملائه الشعراء الأحياء، وأن يتقبل حقيقة أن القصيدة لا تنتهي، لكنها تنسحب من وجدان أحدهم في الوقت الذي يحلو لها، فتتركه حطاماً مهشماً أو مشروعاً جديداً قابلاً للنمو في أرض أخرى، غير أرض الشعر، فالمهمشون من الشعراء هم الأغبياء وحدهم.
(العربي الجديد / 25 أبريل 2019)