إبراهيم محمد نصير/
هَمْسُ حروف ودبيبُ قدم ، ثمّ طَرْقٌ ناعم ؛ طرقُ مَنْ يَوْجَل مِن الطّرق ، ويهاب الولوج . شرعتِ الباب ، تقدّمتْ خطوة واحدة ، فطلبتْ إليه ، وتوسّلتْ من عمر الزّمان القادم دقائقَ خمسًا ستمضي كما مضتْ قبلَها غيرُها . لم يجِبْ طلبَها ، ولم يرحم توسّلَها ، وكذلك لم يمنعها . لاذ بالصّمت جواباً تركه يُبلبِل ذهنها . لم يزِدْها السّكونُ إلّا صخباً ، فخطَتْ نحو مكتبه الوثير تواجهه ، فلم يعبأ بها ؛ فبالُه في شاغلٍ عن شاغلِ بالها .
دار بينهما فراغٌ دوّى الحجرةَ بألم الشّكوى ومرارة النّجوى . أسند ظهره إلى مقعده الأثير ، لم يتخلّ عن كتابه ، شدّه إلى حضنه بكلتا يديه . رفع رأسه المثقل بتلك الشّكوى تتردّد عليه كلّما رغب في تجاهلها أو نسيانها ، تطلّع إليها بعينين خفتَ بريقُهما المعهود بهما ، غير أنّهما تَتَلأْلآن بوميض كوميض النّجوم السّابحة في غياهب السّماء البعيدة . أومأ أن تُفصح عن مكنونها وكوامنها ، أن تنفث زفراتها الحبيسة بها ، فلم تخبْ ظنّه .
ببضع كلمات تشي حروفُها بآهات عميقة القرار شرختْ كيانها ، فتصدّعتْ أركانُه ، فلم تعد قادرة على ترميم ما تهدّم من بقايا البناء القديم المرمّم مرّات ومرّات ، وكأنّ حجارته تتساقط بين ضلوعها الهشّة . صمتتْ تنتظر غيثاً نديّا يهمى قطرُه ليطفئ جذوة الغضب ، ويُلين القلب القاسي . رنا ببصره نحو النّافذة ، فأنفذ فيها تنهّداته الصّاعدة ، فجعل يرقب الأفق الشّاحب . فمكث وجال مليّاً على شطآن ذكرياته ، فانسلّتْ منها ذكرى تدحرجتْ واستقرّتْ في ثناياه ، فوخزتْه في كبريائه ، فاشتعل غيظا وغضبا ممّا حدث فيها وجرى . لم يطق تلك الذّكرى ، ولم يستطع عليها صبرا ، فاستعاد الجلبة الّتي علتْ قبل قليل . فعبس ، ونبسَ لتلك الوجِلة أن تتمهّل مشيرا لها بسبّابته نحو ضلعه الأيسر أنّ جراحه تُنْكَاُ كلّما اندملتْ .
توجّستْ خيفةً حين أبصرتْ لهباً ظليلاً يزحف يتلوّى بين طيّات قسماته الجامدة الكامدة ، تتّقد عيناه بعروق قانية تحملقان إليها تؤنّبها تزجرها . مرّتْ الدّقائقُ المُتَوَسَّلَة عقيمةً عتيقةً في زمانها ، فلاحتْ سحابةُ شحناء شاحبة تتمطّى بينهما بمهل ، تمتزج بأنفاسهما اللّاهثة التّعبة بثقل ركام الخلاف وجليد الخصام . فكان يلومها ، وكانت تعاتبه . كان يقسو ، وكانت تحنو . كان يتّهمها ، وكانت تُبرّئُه ؛ فكأنّما كان يشكوها عذابَه ، و إنّما هي لا تشكوه إلّا اجتنابَه . كان حملُهما ينوء بهما غيرَ قادريْن عليه . فصمتا منصتيْن في جلالٍ لحكيم العقل وحليم القلب .
تَتَالتْ دقائقُ أخرى ، وبين ثناياها هبط الزّفيرُ بأنينه ، وعلا الشّهيقُ بحنينه حتّى استويا . تبدّدتِ السّحابةُ وتلاشتْ بغضاؤها ، فصفا الفضاءُ المكفهرّ ، ولان خفقُ الضّلوع ، فسرى من النّافذة حفيفٌ من نسيمُ ندى بلّل جفافَ الصّدور ويبسَ الشّفاه المتشقّقة بأيّام الشّقاق والفراق .
ودّ لو يضمّها ، وودّتْ لو تعانقه ، بيْد أنّهما لم . تساءل كاتِماً سرّه المُعلَن أمامها ” تُرى ألا تزال السّعادة بمذاقها الأزليّ ! ” . أطرق واجما يُطبق عليه شجوُه ، بينما ينبض به وَلَهٌ قديم الصّبابة ، فانفلتَ كتابُه من يديه وانزلق بين قدميه . وهي ورغم أنّه بقيتْ ثمالةُ عتبٍ وشتْ بها عيناها وكادتْ ان تبوح به – فإنّها أدركتْ لواعجَه ولم تستمهلْه وتتركه نَهباً للوسواس الخنّاس ، فأقبلتْ نحوه ببسمتها المشرقة وبقوامها الفاتن الممشوق ، احتضنتْه بِتَوْق ، فطوّقها بِشَوْق . أسدلا جفنيْهما الواهنيْن، ونبستْ شفتاهما بكلمات ناجتْ بالأسرار ، فباحتْ بوَجْدِ اللّيل والنّهار .
يا لها من وحدة ، يا لها من قسوة تزلزلت بهما أرضُ دارهما ! كم من صيف وشتاء مرّا بهما ولم يمرّا هُما بهما ، كم من نهار جميل الطّلعة وليل عليل النّسمة تعاقب عليهما وهما عنهما لاهيان بشقاقهما وفراقهما ! أَلَمْ يكونا يوما رفيقيْن مُتعاهديْن متحابّيْن . أَلَمْ يقل لها : إنّي أحبّك ، أّلمْ تقلْ له : إنّي أحبّك ! فمَن نكثَ الوعدَ ، وحنثَ بالعهد !
ليسا هُما شاذّيْن في شأنهما ؛ فمِثْلُهما كثير ، غير أنّ مَنْ ينجو مِن براثن الانفصال قليل هم . فما أجملَ الرِّفقةَ ، وما أقبحَ الفُرقة !