(إلى ضجر.. وردة الفيس بوك)
مشهد بعيد جدا استللته قبل أيام من أقاصي الذاكرة بسبب تعليق عابر لإحدى الصديقات على موقع التواصل الاجتماعي (الفيس بوك).
كنت ربما في الثالثة عشرة من عمري، أدرس في المرحلة المتوسطة عندما دخلت على غرفة ناظرة المدرسة أبلة شريفة الأمير رحمها الله لأمر ما، فوجدتها مشغولة بمكالمة هاتفية لكنها أشارت لي وهي تتحدث بالجلوس على.. جلست قبالة النافذة فرأيت العاملة تسقي نبتة صغيرة موضوعة في أصيص جميل على سياج نافذة المكتب المشمسة بفنجان قهوة كانت قد أخذته من على المنضدة الصغيرة أمامي.
استغربت ما تفعله العاملة، ولم أجرؤ على سؤال الناظرة طبعا بعد أن انتهت من مكالمتها الهاتفية وتفرغت لي.
مضيت لشأني لكن مشهد الزهرة البيضاء الصغيرة النابتة في ذلك الأصيص وهي تشرب القهوة الصباحية كان قد شغلني فعلا، وقررت أن أعرف الحكاية.
في “الفرصة” ذهبت للعاملة التي كانت تحبني جدا، وتراعيني منذ أن أوصتها والدتي ذات يوم بذلك، فسألتها عن الأمر مستغربة من الزهرة التي تشرب القهوة بدلا من الماء.
ضحكت “أم أيمن” كما كنا نناديها، وقالت إنها زهرة الفل وإنها تسقيها كل يوم ببقايا فنجان الست الناظرة وفناجين ضيوفها أيضا.. لأن البن كما أضافت بلهجتها المصرية الجميلة “بينعش الفلة وبيخليها تكبر بسرعة وتبقى حلوة زيك كده”.
عدت للبيت لأخبر والدتي بتلك المعلومة الجميلة ولأطلب منها أن تستفيد منها وتسقي زهور الفل ببقايا فناجين القهوة..
ضحكت والدتي يومها كثيرا وذكرتني أننا لا نستخدم القهوة التركية ولا نعرفها، وفناجين قهوتنا العربية لا يبقى فيها شيء لنسقي به الزهور، ثم أننا لا نملك حديقة وليس في البيت كله أي أصيص للزهور أصلا…ثم ما هو الفل؟!
قلت لها أعرف ذلك.. لكن هي معلومة للمستقبل.. فربما سيكون لنا بيت له حديقة نزرعها بالزهور ومنها زهر الفل الأبيض، أو شرفة نضع على سياجها أصصا مزروعة بالفل. ومن يدري أيضا؟، ربما نتعلم احتساء القهوة التركية ذات يوم، فنستفيد من بقاياها في الفناجين.
من قال إن الذكريات تموت؟ أم أن الحكايات تغيب عندما ننساها؟ أم أن شيئا ما يفنى في هذا الكون؟. من يقول ذلك عليه أن يفتش عنها في أقاصي ذاكرته وسيجدها، فإن لم يجدها ما عليه سوى انتظارها.. وليكن واثقا أنها ستظهر.
ذهبت حكايتي القديمة مع الفلة التي تشرب القهوة كل صباح أدراج الزمن، أو هكذا ظننت الى أن أعادني لها تعليق صديقة الفيس بوك التي أصبحت واحدة من أغلى “ناسي” من دون أن أراها.. كانت تعلق تلك الصديقة على شيء ما يتعلق بالقهوة والورد أو ما بينهما من وشيجة قد تبدو غير مألوفة ولا منطقية.. فاكتشفت أن الذاكرة لا تفقد شيئا من محفوظاتها القديمة لكنها فقط تغيبها أحيانا لتظهرها لنا في أوقات محددة بغرض إعادة إشعال ما خمد من جمرها..
لحظتها فقط اكتشفت سر عشقي الكبير للقهوة التركية وكيف بدأ من دون أن أشعر. واكتشفت أيضا من أين أتتني تلك العادة التي جعلتني أسقي كل الأصص الموجودة في مكتبي ببقايا فنجان قهوتي في كل مرة أحتسيها..
فأنا ما زلت مبهورة حتى الآن بتلك الفلة التي تنتعش كل صباح في مكتب الناظرة بفنجان قهوة لتكبر و”تبقى حلوة زيي كدة” كما أخبرتني يومها أم أيمن.. رحمها الله حاضرة أو غائبة.
(الرياض 16 يونيو 2013)
معلومه شيقه من إستاذه رائعة