بقلم: نفلة محمد
في المنتصف، بعيدًا بعض الشيء عن الضجيج المحتم الذي يصل للصفوف الأمامية، ويبعُد كثيرًا عن الصفوف الخلفية التي ربما لا تشهدُ الحدث كاملاً. أجلُس وأتابع بشغف الباحث عن كشف السرّ، وفي الوقت ذاته عن بطلانه.
بين الناس هناك وفود من الكلمات تصل مسامعي، ويغيب بعضها، وما شغلني ما غابَ بقدر ما أهمّني ما حضر، وقيل أثناء حضوري أو على بعد ثلاثة أمتار أو أقل.
تُشاغِلني اللغة بشغبها وهدوئها، برقّتها وقسوتها، ببلاغتها وسطحيتها أيضًا. أنظُر إليها بعين مُعجَبٍ ومُندهش، لا شكّ وأنا أمارس معها أحيانًا الدور الذي لا أجيده جيدًا، ولا أستسيغه في مواقف عديدة، لكن أجدُ نفسي مدفوعةً إليه، كالذي حلّ بأرضٍ لا يعرف جهاتها الأربع، ولا يمكنه السير فيها إلا خلف دليل قد حفظ مساكنها وطرقاتها وأزقتها، ويتمنى عوضًا عن ذلك لو كان في يده خريطتها.
حينما أكون بين يديْ حديث لا تهمّني تفاصيله، وأسمع بين الكلمات عبارات إن أمعنت في طبيعتها فهي لا تُساق إلا لذي مكانة رفيعة في القلب، أو من حاز قدْرًا لا يُستهان به من الحبّ، ومع ذلك يدفعها عموم الناس للغرباء دون ودّ مُسبَق، أو شعور متنام قد ثبّت جذوره في عمق القلب!
حقيقةً؛ تبدو لي هذه الجمل اللطيفة كورودٍ قُطفت بيد عابر، ليقدّمها ليدِ عابرٍ آخر لا يؤمن بقيمة الورد ولا رسالاته، إلى أن تجدها بعد بضع دقائق ملقاة على أقرب ممرّ، أو ممزّقة قد تفرّقت بتلاتها في أرجاء المكان يجمعها عامل نظافة وهو يتساءل: كم بقيَ من الشعور؟!
رفقًا بالكلمات، عذرًا.. بل باللغة. فهي على سعتها لم يتمكّن أيّ منهم من أن يستعيض بأبسطها وأخفّها عن أعمقها وأثقلها عاطفة. ربما الأمر في تصوّرنا هو أقرب إلى الذوق منه إلى التعبير عن أحاسيسنا بهذه الرقة المتناهية، وهذا لا يُلغي أبدًا حقيقة أننا في الوقت نفسه ننزع عن الكلمة صفتها البديعة ونُلبسها ثوبًا شفيفًا لا يعكس ما خلفه إطلاقًا! فالأمر على شيوعه ذو وجهين، وكلاهما سيئ، والأسوأ منه في الواقع: أننا حتى الآن لا نعلم ما هو البديل!
الوجه الأول: وجه أنيق، يشير إلى كمّ اللباقة التي نتمتع بها في محادثاتنا وتواصلنا مع الآخرين، والآخر: يكشف عن أن المعاني لا تدلّ على المعاني، وبصورةٍ جليّة واضحة: أن العبارات المرهفة المفعمة بالعاطفة توزّع بالمجّان، ولا تدلّ على معناها بالضرورة! وعلى ذلك؛ عليك أن تقوم بعملية بحث جادّة فيما لو أن ما يُقال هو ذاته ما وقَر في الصدور إن لزَم الأمر أو استشكلت عليك حقيقته.
اللغة المجوّفة أصبحت أداة تواصل ووصل لمن لا يعرفنا، ومبعث شكّ لمن يعرفنا ويعرف مدى سخائنا بصرف العبارات المنمقة لمن حولنا التي توهِم السامع، وقد تتسلل إلى قلبه من حيث لا نقصد.
الناس ليسوا سواسية في إدراكاتهم ووعيهم، يختلف بعضهم عن بعض، ولا يعزب عن عاقل مدى أثر اللغة وحساسيتها في التفاعل معهم على الوجه الصحيح دون تشويه لمعانينا الدفينة، أو مبالغة في مشاعرنا الآنية التي من الممكن أن تجرّ عربة علاقاتنا إلى حفرٍ متفرقة، يستدعي الخروج منها الكثير من المتاعب.
حلمي ان اتعلم كيف اكتب كتابا او مقالات طويلة رغم انني اكتب خربشات هنا وهناك شكرا لكي