8 أكتوبر 2015 / ما هو الشعر؟
كثيرا ما أسأل ذلك السؤال المخاتل عن الشعر تحديداً، قبل أن يكون عن الكتابة بصفتها الأشمل، ولكن ليس الأكمل.
تغويني بساطة السؤال، لكنني أنداح في خضم المستحيل، وأنا أحاول الإجابة كلما أردت الاجتهاد، ودائماً من دون جدوى.
تأتينا الجدوى، المفقودة أحياناً، في خضم الحياة اليومية من حوادث مهملة. يحدث هذا معي كثيراً في يومياتي، وفي ذكرياتي أيضا.
سألت ابنة أخي، الصبية التي تدرس اللغة العربية وآدابها في الجامعة، ما إذا كانت تذكر ما قالته لي، وهي وفي الصف الأول الابتدائي، عن أنهار الكاكاو في الجنة. استغربت، وقالت إنها لا تذكر شيئاً عن ذلك، وإنها الآن غارقة، بحكم دراستها، في أنهار المعلقات الجاهلية، وتستغرب لماذا سميت بهذا الاسم الذي يتناقض مع جمالياتها الضاربة في الوعي والفن.. وتلك حكاية أخرى.
كانت شروق في السادسة من عمرها، عندما عادت من المدرسة يوماً بسؤال غريب، تحيّنت الفرصة، كما يبدو، لتسألني إياه بشيء من الخوف والتوجس. قالت إن معلمة التربية الإسلامية أخبرتهم عن جنةٍ تجري من تحتها أنهار العسل والحليب والخمر، أعدها الله سبحانه وتعالى للمؤمنين والمتقين، فهل هذا صحيح؟
أجبتها يومها” نعم.. هذا ما ورد في القرآن الكريم. وقبل أن أشرح لها مسألة الخمر تحديداً، لأنني توقعت أنها ستسأل عنه، فاجأتني شروق معترضة، وكأنها أصيبت بخيبة أمل من نوعٍ ما: لكنني لا أحب العسل ولا الحليب.. والخمر أيضاً، فهل يمكن استبدالها؟ هل يمكن أن أطلب من الله أن يجري في أنهاري شوكولاته فقط؟
ابتسمت لغرابة الفكرة التي لم تخطر لي على بال، ورددت على سؤال شروق: طبعاً تستطيعين أن تطلبي من الله تعالى ما تشائين. ولكن، اضمني دخول الجنة أولاً، ثم فكري بطلباتك الخاصة يا ست شروق.
نسيت شروق تفاصيل الحوار كله، وها هي تسألني الآن عن تعريف الشعر وماهية القصيدة، جزءاً من متطلبات مقرراتها الدراسية الجامعية في قسم اللغة العربية.
لم أحب أن أجيب على أسئلتها التي لا أعرف لها إجابات محددة أصلا، لكنني أحلتها فقط على أقوالها الطفولية، والتي ما زلت أحتفظ بدهشتي أمامها كلما تذكرتها. لشروق بالذات قدرة عجيبة على استنباط عبارات مدهشة، لا تخرج عن فضاء الشعر.
فاجأتني، مرة في العاشرة من عمرها، بتعريفها لليل بأنه “النهار بس لابس عباية” (عباءة). ومرّة، عرّفت البحر بأنه “سماء بس مبللة بالماي” (الماء).
قلت لشروق إن عباراتها التي لا تتذكرها الآن قصائد حقيقية، فأجابتني مبتسمة بسخرية: هل يمكنني أن أصبح شاعرة؟ قلت لها: بل أنت شاعرة فعلا.
لكن، يبدو أن الشعر لم يعد مغرياً للصبايا، ولا لغيرهن، فقد ردّت باستخفافٍ على الفكرة كما يبدو: لا.. أنا فنانة تشكيلية، وربما رسمت لك يوماً جنتي المتخيلة تجري من تحتها أنهارٌ من النوتيلا اللذيذة.
بانتظار جنة النوتيلا، استعدت بعض أسئلةٍ أواجَه بها في معظم اللقاءات الصحفية عن معنى الشعر، عن تعريفه وتفسيره، عن مبتدأه ومنتهاه، فأجيب دفعاً للعجز الحقيقي على سبيل الاحتمالات غير المؤكدة؛ لعله دهشة لامتناهية. لعله سؤال تلد إجابته ألف سؤال. لعله لذة مؤلمة. لعله صلاة ليقين الظنون. لعله قطعة سماء معلقة على جدار غرفةٍ بلا نوافذ. لعله تأثيث لفراغ الروح. لعله ذهاب للوصول المستحيل إلى سدرة المنتهى. لعله غواية ما.. ربما..ربما. ويضيق المعنى، عندما تتسع الإجابات، لتفيض عن حواف السؤال.. ولا إجابة.
سأنتظر لوحة شروق الموعودة، لعلي أجد تلك الإجابة المنتظرة، ولعلي أجد مزيداً من الأسئلة عن الجنة، والشعر، والرسم.. وعني أيضاً.
(العربي الجديد / 8 أكتوبر 2015 )
https://www.alaraby.co.uk/opinion/2015/10/7/%D8%A8%D8%A7%D9%86%D8%AA%D8%B8%D8%A7%D8%B1-%D8%AC%D9%86%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%86%D9%88%D8%AA%D9%8A%D9%84%D8%A7