فاطمة القلاف/
في البيت الذي سكنته شاعرة، أبعاد لذكريات طريّة تحضر وتتشكّل مثل تربة في يد التكوين، امتداد أجنحةٍ لفراشة لم تجفّفها الكهولة كما قميصها المفرود على الشرفة الضيّقة. ليس افتراساً عنيفاً على رهان الموت، إنها السيرة المنبعثة من المدى، من رجع مرأة تنزّ وحشتها من أوردة المكان، المرأة التي سكنت البيت.
تكتب رشا عمران في ديوانها “التي سكنت البيت قبلي” عن أناها المغمورة في ذلك الحيّز المكاني الساكن حيناً وخلّاقاً في أحايين كثيرة، ليصير سيرةً ونطاقاً حيّاً وفاعلاً معها في الممارسات الذاتيّة والواعية، محمّلاً بالضجيج الذي يتعدّى على الوظيفة الأساسية للمكان -البيت- في كونه مأوى جامد. البيت عند رشا عمران هو كيان مفكّر تنسجم هويّاته المعاشة والمتخيّلة في أشكال لغوية شعرية، وتستند عليه حالاتها الشعوريّة المتعددة في موضوع خطابيّ تحت إصرار الذاكرة المكانيّة، وبتكرار ما يسميه ياسين النصيرب”ظاهرة الحضور المكانيّ” في كتابه (الشعرية المكانية)، بحيث يحتكم وجودها بوجود الرؤيا الشاعرة، كما يعتبرها: “كينونة شعرية منزاحة عن واقعيتها”. لكنّ هذا الخطاب المكاني يبدو دائماً متعلّقاً بالمصطلح الفلسفي القصدي، فتقصده رشا عمران إلى الفضاءات الأخرى الطارئة على المكان نفسه، حين تتجلى ذاتُه الخفية وتأخذ مظهراً لغوياً لتعبر عن سيرته معها.
سيرة المكان والجسد:
قد يكون الجدار عند فيروز إشارة للركود النهائي حين غنّته: “ضجرت منّي الحيطان”، إنما هو عند رشا مصدر لفهم أخير، ووميض يعلن عن هوية المكان الخافتة، بفعل الوحشة الأبدية التي تمرّ من جسد الباب، فتقول: “على الجدارن
ثمة حوارات ما تزال تمد نهايتها كما يمتد خيط مشدود من طرفيه”، بهذا لا يكون المكان سياقاً مجرّداً من الأبعاد الحسيّة، فهو يشكّل في الديوان مونولوجاً كاملاً بين الذات الشاعرة وتشظّياتها فيه، من أجل تكوين إعادة فهم في حوار قوامه الذاكرة، والشاهد فيه الجسد الذي تمرّر عليه قصائدها. تتقاطع تفاصيل الجسد المكتوبة مع قول ميشيل فوكو في (تاريخ الجنسانية): “ولكي تصير الإدارة الجيدة للجسد فنّاً للوجود، فإنه يلزمها أن تمرّ بتدوين كتابي تنجزه الذات بخصوص نفسها، وهكذا يمكنها من خلاله أن تكتسب استقلاليتها”، فتفتح رشا عمران أفقاً أبعد عنه وعن تجاربه الجنسيّة لتنبثق من خلاله مرايا الجسد الذي ينطلق من اللامرئي ويوثق وجوده الحر، وليمشي طويلاً في هيئة جرح ودم لذكريات ناضحة.
الاعتراف الجنسي:
تتسرّب من القصائد مشاهد جنسيّة غير مكتملة ومقطّعة، تفضح عن القمع والتكتيم المعرّض لموضوع الجنس، بجانب التوصيف الأدبي لأشكال النزعات المتراوحة على الذات، بحيث تتخذ تلك الأشكال الجنسية قوالبا ملائمة للثيمة اليومية في الديوان وتُلبس في: “علاقات عابرة، رابط عبق الرائحة، ووجه رجل لا يفرّق بين القلق ورغبته العابرة”.
نحن لسنا أمام قياس لأحكام قيمية متحوّلة، إنما كما قال فوكو في فصل (الحض على النقاشات) أمام “تشغيل أداة لإنتاج مزيد من مناقشات حول الجنس، بحيث تكون قادرة على التفعيل والتأثير ضمن ذلك النطاق تحديداً”، وذلك ما تحدثه رشا عمران في الديوان، فتشير وتموضع للجدل الجنسي مكاناً في الأدب، وتجعل من فضحه المقطّع قيمة كلامية وفكرية مؤثرة.