كل تغيير لنصٍ منشور هو تخريب له، مهما كان حجم هذا التغيير، أو نوعه، أو الهدف من ورائه. وعلى الرغم من أن هذه الرؤية الخاصة تنطبق حتى على التغييرات التي يجريها صاحب النص نفسه، فإن حجم التخريب سيكون مضاعفا، إن كانت بيد غيره، سواء أكان ذلك بإذنه أو بدون إذنه! فإن كان ذلك النص مما يمكن وصفه بأنه تراث، فإن التخريب يصبح جريمةً حقيقيةً، وهو ما أراه ينطبق على ما يتجرأ بعضهم بالقيام به تجاه كتبٍ تراثيةٍ، بحججٍ مختلفة، لا يمكن قبولها تحت أي ظرف.
لم يحتج المترجم فرحان بلبل إلى أكثر من تغريدةٍ غريبةٍ، يعبر فيها عن نيته إعادة صياغة أحد أشهر الكتب العربية، “رسالة الغفران” لأبي العلاء المعرّي، حتى اندلع نقاش مفتوح حول الأمر. كتب بلبل، في تغريدته التي نشرها عبر حساب دار ممدوح عدوان على منصة تويتر، وهي الدار التي يُفترض أنه سينشر “رسالة الغفران” الجديدة عبرها؛ “انطلاقا من أمنيةٍ في أن يقرأ كل العرب ما يستطيعون من التراث القديم، رجعت إلى رسالة الغفران لأبي العلاء المعرّي لوضعها بين أيدي القراء عبر (إعادة صياغتها)، أي بشكل أساسي استبدلتُ الكلمات الغريبة البائدة بألفاظ عادية، يفهمها القارئ، وقمت بإعادة صياغة بعض التراكيب والجمل”.
و”رسالة الغفران” أشهر كتب الشاعر والفيلسوف أبي العلاء المعرّي، وأحد أشهر الكتب في تاريخ أمة العرب. ألفها المعري في عزلته في البحث والاختيار ردا على رسالةٍ لابن القارح، شكا فيها أمره وأحواله في زمنٍ كان قد ظهر فيه بعض من عرفهم بأنهم ملاحدة وزنادقة.
كتب المعرّي تلك الرسالة بآسلوبٍ روائيٍّ موغلٍ في سخريته، متوسلا خياله في بناء الأحداث والشخصيات من الشعراء واللغويين والرواة، وما يحدث لهم يوم القيامة، على سبيل الخيال الجامح، والذي كان مادة الرسالة بقسميها. ولأن المعرّي توصل إلى تلك التركيبة الروائية العجيبة في وقتها، خصوصا عبر براعته اللغوية وبلاغته العالية، ومعرفته الواسعة بالعربية وأسرارها، بالإضافة الى رؤاه الدينية التي تنزع منزعا فلسفيا خاصا به، فقد كان من الصعب على كثيرين ممن تخصّصوا في تحقيق التراث العربي منذ بدايات القرن العشرين الاقتراب من تلك الرسالة الفريدة، بما يمكن أن يؤدي إلى سلب سحرها الخاص. لكن واحدةً من أشهر المهتمين بتراث العرب اللغوي، وهي عائشة عبد الرحمن (بنت الشاطئ)، تصدّت لتلك المهمة الدقيقة، فنشرت، في مطلع خمسينيات القرن الماضي، نسخةً محققةً من “رسالة الغفران” أصبحت في ما بعد، بتعدّد طبعاتها، النسخة الأشهر باللغة العربية.
فهل تحتاج رسالة الغفران، وغيرها من الكتب التي تزخر بها مكتبة التراث العربي بالنسبة للقارئ، أكثر من التحقيق العلمي، بما يشمله من شرحٍ لبعض المفردات والتدقيق الطباعي، حتى يأتي أحدُهم، وبحجة وضعها من جديد بين أيدي القراء العرب، ليعتدي عليها في أعزّ ما تمتاز به، وهو اللغة، فيعيد صياغتها، ويستبدل ببعض مفرداتها مفرداتٍ وصفها بالعادية؟
من أعطى السيد بلبل، أو دار النشر التي تقف وراءه، الحق في أن يكون وسيطا بين المعرّي وقرّائه على هذا النحو المتطفل؟ كيف سمح لنفسه أن يكون وصيا على المتلقي، في كيفية تلقّيه النص الخالد، وكما كتبه مؤلفه؟
رحل أبو العلاء قبل ما يقرب من ألف عام، تاركا وراءه كتبه أمانةً لدى قرّاء العربية في كل مكان، ولا أظنّه تخيّل، وهو الذي تخيّل ما سيجري في الدار الآخرة، أن سيأتي أحدهم ذات يوم ليكون وصيا عليه، وعلى قرّائه، فيجري قلمه في جسد اللغة، ليعيد تشكيلها كما يفهمها هو، وكما يريد لكل قرّاء المعرّي لاحقا أن يفهموها!
(العربي الجديد 24 يناير 2019)
الغريب جداً هو مهاجمة السيدة سعدية لكتاب لم تتطلع عليه بعد!
والغريب هو الدفاع المستميت ضد محاولة إدخال ضوء الشمس إلى الأقبية
من الواجب علينا تقديم الشكر إلى الكاتب فرحان بلبل الذي يحاول أن يردم الهوة بين الكتب التراثية صعبة التواصل وبين الأجيال الحديثة التي لن تضيع خمس دقائق في تصفح كتاب لا تفهم منه شيء.
يبدو فعلا أن التراث بشقيه المضيء والاسود هو مشانق هذه الأمة التي لا تجرؤ على مناقشته.
سيد بلبل عذرا لاتعبث بأثر خالد تاثر به صاحب الكوميديا الإلهية دانتي الاليجيري وله عمق بعيد الغور في تشكيل ذائقة الكثير من الناس
مساء الخير سعدية
مضى وقت
السؤال هل حقق الاحتفاظ بالنسخة الأصلية من “رسالة الغفران” انتشارا لها بين القراء من الشباب؟ ربما تحديث اللغة يكون مسارا لانتشارها بعد أن ترك الغبار أثره عليها في أكثر المكتبات. ثم إننا في النقد عندما نصف العمل نقول أن فيه “أسلوب روائي” وأعتقد أن تعبير “أسلوب روائي” لا ينتمي إلى لغة الرسالة ومقارنة مع لغة المعري فإن النقد يخاطب المتلقي اليوم بلغة عصرية حتى وهو يصف عمل أثري. أنا مع التجديد لأني أجد أن الهدف الأساس من اللغة هو نقل الأفكار بدل حبسها في قالب لغوي قد يصفه المعجم بأنه (قديم)، ومن له بعد ذلك اهتمام بلغة الكاتب يمكن له أن يرجع للنسخة الأصلية من الكتاب.