“عندما يكتب نجيب محفوظ يدير ظهره للعالم، لا يعبأ بشيء”.. وردت هذه العبارة في مقدّمة كتاب جمال الغيطاني “نجيب محفوظ يتذكّر”، وهي تصلح أن تكون وصفاً لكل كاتب، فأن تكتب يعني أن تدير ظهرَك للعالم، ولا تعبأ بشيء آخر غير ما يعتمل في رأسك من أفكار تحاول أن تحرّرها بواسطة الكلمات.
ولكن القارئ المخلص لروايات نجيب محفوظ يعرف أنه أحد أكثر الكتاب اهتماما بمشكلات العالم في رواياته الكثيرة، ففيها شرّح كثيرا من تلك المشكلات تشريحا دقيقا، عبر رسمه شخصياتٍ استلّها من واقعه بمنتهى السلاسة، ليكشف من خلال ملامحها المعاد رسمها تعقيداتٍ لا نهائية من مشكلات البشر الذين يعيش بينهم ومعهم، وإن كان ذلك في محيطه الجغرافي الذي لم يتجاوز القاهرة وضواحيها وحواريها إلا قليلا.
إدارة ظهر الكاتب للعالم، وابتعاده عنه والعيش في عزلة إنتاج الإبداع، لا تعني تجاهل ذلك العالم الذي هو مادّة الفنون كلها، ولا تعني الخروج عن الدائرة المعاشة واقعيا، مهما كانت صغيرة أو ضيقة، مقارنةً لها باتساع آفاق الكتابة مثلا، ولكنها تعني أن يترك المبدع ذلك العالم الحقيقي، ليحاول إعادة تشكيله في مادة الكتابة، كمن يعيد تركيب قطع لعبة الليغو، ليشكل منها عالما، بل عوالم كثيرة جديدة، وربما قديمة، من دون أن يستعين بقطع إضافية من تلك القطع التي يمكن اعتبارها هنا معادلا موضوعيا لمفردات اللغة في أثناء الكتابة، ففكرة تلك اللعبة تشبه فكرة الكتابة فعلا، إن قارنّا بين الاثنين على صعيد المكونات والنتائج والمتعة المتحصلة لمن يلعب أو يكتب حتى يصل إلى نتيجته المتوخّاة!
يدير الكاتب ظهره للعالم إذن على سبيل المجاز اللغوي، لينغمس فيه تماماً، أي أنه يخرج منه ليعيشه، ويبتعد عنه ليراه في مشهده المتكامل، وهذا مما يساعده على احتواء الأفكار المتدفقة عبر الإلهام، وإعادة توجيهها في الكتابة الثانية.
كل محاولة جديدة يتشكل عالم جديد بين يدي الكاتب؛ تموت شخصياتٌ وتولد غيرها، تظهر وتختفي، وتستمر الحياة ما بين الحقيقة والخيال، ما يجعلنا، قراء ومتلقين ونقادا، أحيانا نقسو كثيرا على من نقرأ لهم، ونحن نحاول إخراجهم من فضاء الخيال إلى دائرة الواقع قسريا وبشكل محدّد مسبقاً.
أعادتني عبارة جمال الغيطاني المذكورة أعلاه إلى قراءة أحد أهم كتب نجيب محفوظ وأجملها في سنواته الأخيرة، “أصداء السيرة الذاتية”، لأرى كيف كتبها وفقا لذلك الوصف. كيف أدار ظهره للعالم كي يخاطبه بتلك الرقّة والشفافية والذكاء والاختزال المذهل في كل نصوص الكتاب؟
لا يمكن أن يكون نجيب محفوظ قد أدار ظهره للعالم وهو يكتب أصداء سيرته الذاتية المستمدّة في كل منعطفاتها من علاقته بالآخرين والأمكنة والأزمنة، أي من علاقته بالعالم. وهذا يعني، مرة أخرى، أن الابتعاد عن العالم الذي أشار إليه الغيطاني كان مجرد ابتعاد شكلاني بحت، فجنة الكتابة لا تنضج لذائذها إلا تحت النار التي يشعلها الآخرون.. الذين هم أهم من في العالم.
إدارة ظهر الكاتب للعالم، وابتعاده عنه والعيش في عزلة إنتاج الإبداع، لا تعني تجاهل ذلك العالم الذي هو مادّة الفنون كلها، ولا تعني الخروج عن الدائرة المعاشة واقعيا، مهما كانت صغيرة أو ضيقة، مقارنةً لها باتساع آفاق الكتابة مثلا، ولكنها تعني أن يترك المبدع ذلك العالم الحقيقي، ليحاول إعادة تشكيله في مادة الكتابة، كمن يعيد تركيب قطع لعبة الليغو، ليشكل منها عالما، بل عوالم كثيرة جديدة، وربما قديمة، من دون أن يستعين بقطع إضافية من تلك القطع التي يمكن اعتبارها هنا معادلا موضوعيا لمفردات اللغة في أثناء الكتابة، ففكرة تلك اللعبة تشبه فكرة الكتابة فعلا، إن قارنّا بين الاثنين على صعيد المكونات والنتائج والمتعة المتحصلة لمن يلعب أو يكتب حتى يصل إلى نتيجته المتوخّاة!
يدير الكاتب ظهره للعالم إذن على سبيل المجاز اللغوي، لينغمس فيه تماماً، أي أنه يخرج منه ليعيشه، ويبتعد عنه ليراه في مشهده المتكامل، وهذا مما يساعده على احتواء الأفكار المتدفقة عبر الإلهام، وإعادة توجيهها في الكتابة الثانية.
كل محاولة جديدة يتشكل عالم جديد بين يدي الكاتب؛ تموت شخصياتٌ وتولد غيرها، تظهر وتختفي، وتستمر الحياة ما بين الحقيقة والخيال، ما يجعلنا، قراء ومتلقين ونقادا، أحيانا نقسو كثيرا على من نقرأ لهم، ونحن نحاول إخراجهم من فضاء الخيال إلى دائرة الواقع قسريا وبشكل محدّد مسبقاً.
أعادتني عبارة جمال الغيطاني المذكورة أعلاه إلى قراءة أحد أهم كتب نجيب محفوظ وأجملها في سنواته الأخيرة، “أصداء السيرة الذاتية”، لأرى كيف كتبها وفقا لذلك الوصف. كيف أدار ظهره للعالم كي يخاطبه بتلك الرقّة والشفافية والذكاء والاختزال المذهل في كل نصوص الكتاب؟
لا يمكن أن يكون نجيب محفوظ قد أدار ظهره للعالم وهو يكتب أصداء سيرته الذاتية المستمدّة في كل منعطفاتها من علاقته بالآخرين والأمكنة والأزمنة، أي من علاقته بالعالم. وهذا يعني، مرة أخرى، أن الابتعاد عن العالم الذي أشار إليه الغيطاني كان مجرد ابتعاد شكلاني بحت، فجنة الكتابة لا تنضج لذائذها إلا تحت النار التي يشعلها الآخرون.. الذين هم أهم من في العالم.
(العربي الجديد/ 19 ديسمبر 2019)