سبق أن حاولت الحديث عن الجيل التسعيني في الكتابة الإبداعية، حتى قبل انتهاء ذلك العقد، وتبلور ملامح جيله بشكل أفضل، على الرغم من أنني لا أفضل استخدام مصطلح الجيل، وفقا لسياقه النقدي المتعارف عليه حاليا. ولكن ذلك لم يمنعني من محاولة رصد لملامح مشتركة كثيرة بين الكتاب الذين ظهروا في التسعينيات وما قبلها بقليل، والذين تبلورت تجاربهم الفردية كل على حدة أخيرا، ما سهل من استخدام مصطلح جيل التسعينيات من دون حرجٍ.
وسأعود الآن إلى ذلك الحديث، تمهيدا للحديث عن الجيلين اللذين تلياه، باعتباره جيلا مفصليا على صعيد الكتابة في الخريطة العربية.
رأيت في ذلك الحديث القديم أن لجوء أولئك الكتاب الشباب (من الجنسين طبعا) إلى التمرد الأسلوبي على كل التجارب الكتابية السابقة، بشكل أكثر حدّة وشجاعة وإعلانا من التمرد التقليدي المتوقع عادة من أي متعاط بالشأن الإبداعي بين الأجيال التاريخية المختلفة، هو إحدى أبرز السمات المشتركة التي تجمع بينهم، بالإضافة إلى انطوائهم على ذواتهم القلقة، وانكفائهم نحو دواخلهم المتعبة من إرث الآباء الثقيل، سمة أخرى بين كتاب جيل التسعينيات هذا وكاتباته بشكل عام.
وطبعا، لهذا الانكفاء نحو الداخل، والنبش من المصادر الذاتية مادة لإبداع أولئك الكتاب أسباب، لعل أبرزها الشعور الجمعي بالهزيمة، ليس على مستوى الأحلام الكبرى للأمة وحسب، وإنما أيضا الإحساس بفقدان القضية العربية المركزية “بفضل” من “جهود” الساسة العرب الذين “نجحوا” في الاستيلاء على دور المثقفين التقليدي في صياغة الخطاب العربي المعاصر، بالإضافة طبعا إلى احتفاظهم الأناني بدورهم الموروث في احتكار تنفيذ متطلبات هذا الخطاب وتحقيق عناصره!
لذلك كله، ربما شعر الكتاب والكاتبات الجدد (آنذاك)، أن دورهم في صياغة خطاب الأمة قد سرق منهم، حتى قبل أن يبدأوا في التعرّف على ملامحه المباشرة. ولم يكن من المصادفة أن يصر نقاد الجيل السابق لهذا الجيل على تسميته جيل الهزيمة، على اعتبار النشأة في ظل الأجواء العربية الملبدة برائحة الهزيمة على مختلف الصعد.
وقد عبر كتاب التسعينيات وكاتباته عن انكفائهم نحو ذواتهم بأكثر من شكل كتابي، وبإصرار على الكتابة في موضوعاتٍ كانت في السابق شبه سرّية، أو هي محرّمة إبداعيا، فقد لجأوا إلى التجريب الكتابي بجرأة غير مسبوقة، كما أنهم التفتوا إلى “الجسد” بشكل مباشر وصريح، وجعلوا منه موضوعا إبداعيا كتابيا مفضلا.
ولعلي أستطيع هنا أن أشير إلى أن الكتابات من ذلك الجيل بالذات كان احتفاؤهن بالجسد لافتا أكثر من احتفاء زملائهن به، ولا أعتقد أن ذلك يرجع الى خصوصيتهن الأنثوية في الكتابة، وفقا لمقولات المؤمنين بمصطلح الأدب النسائي، بقدر ما يرجع إلى ما يمكن أن نسميها خصوصيتهن التاريخية التي فرضت عليهن، بوصفهن نساء يتعاطين الكتابة، موضوعات محدّدة لا يمكن أن تثير إشكاليات إضافية، ما دام تعاطي المرأة الكتابة بشكل عام إشكالية لوحدها، أي أن الكاتبات الجديدات أردن بالكتابة عن الجسد بهذه الجرأة والمباشرة والصراحة غير المسبوقة أن يحطمن ذلك التابو القديم أولا، وأن يجعلن من أمر الكتابة بالنسبة للنساء من المسلمات العادية، على الرغم من أن هذا، من جانب آخر، أوقع كثيرات منهن في فخ الافتعال الذي ينأى بأي كتابةٍ عن الإبداع الحقيقي.
وقد ظهر هذا واضحا، خصوصا لدى القصة القصيرة، باعتبارها وبشكل أقل لدى الروائيات. أما الشاعرات، وهن قلة مقارنةً بعدد كاتبات القصة القصيرة والرواية، فيبدو أن لجوء أغلبهن إلى قصيدة النثر نأى بهن قليلا عن الخوض المباشر في القضايا الجسدية، خصوصا أن قصيدة النثر، برهافتها وتكثيفها، واقتصادها اللغوي المفترض لا تحتمل شيئا كبيرا من تلك المباشرة التي تتطلبها معالجة هذا الموضوع بشكل عام.
حسناً.. ماذا عن الجيلين التاليين؟ قطيعة كبرى نتحدّث عنها لاحقاً بإذن الله.
(العربي الجديد/ 22 أغسطس 2019)