نواف جمال الربيع/
لعل واحد من أهم الأسئلة التي ينبغي طرحها في سياق الحديث عن الأدب في الكويت هو إلى أي مدى تكشف الساحة الكويتية عن أسماء كتاب وكتابات يصدرون أعمالهم الأدبية الأولى (سردية كانت أم شعرية) دون اعتماد منهم على وسائل التواصل الاجتماعي والعلاقات الثقافية التي يكونها الكتاب في الوسط الثقافي، ليصدر حينها عملاً أدبياً مغترباً، منفياً في ساحة أدبية أنهكتها دور النشر بإصدارات كثيرة دون تقييم حقيقي لما هو جيد وما هو رديء لا من دور النشر ولا من الناقد حتى، لتسقط هنا الكثير من الأعمال الجيدة التي يتلاشى صداها في زخم الزعيق.
وهنا علينا التساؤل بجدية حول أهمية وسائل التواصل الاجتماعي والعلاقات الثقافية في خلق أسطورة “الكاتب النجم” الذي يقتني كتبه النقاد أكثر من القراء في سبيل الكتابة عنه سلباً وإيجاباً، فما مصير الكاتب الذي لا يتكئ على الناقد وجمهور التواصل، من سيهتم له من النقاد؟ وأي قارئ سيغامر في قراءة عمل لاسم لم يتردد عليه من قبل؟
وهذا ما يصادفنا في هذا العمل، رواية (الحصني) وهي الأولى لكاتبها أحمد مشاري حمادة، التي يسعى من خلالها إلى التصريح بضرورة مراجعة التراث الشعبي وأساطيره من مثل حمارة القايلة وأم السعف بخلق أسطورة روائية جديدة تسمى (الحصني)، يحاول من خلال العمل صنع أحافير تاريخية تخصها، بحالاتها وتحولاتها، والتي سرعان ما يكتشف البطل وأصدقاؤه أنها شخصية حقيقية لا أسطورة ظهرت في فترة من الزمن لحماية البلد بسرية وخفاء، وتناقلت هذه المهمة عبر الأجيال، آخذين منها جانبها الشهم في الكويت، إلى أن توقفت خلال الغزو العراقي على الكويت، ويعود لإحيائها بندر، الشاب الذي كان يرغب في طفولته بـأن يكون بطلاً شجاعاً على غرار أبطال مجلات بات مات وسوبر مان وغيرهم، فرط تأثره بما يقرأه من هذه المجلات، لدرجة إيمانه بأنه يملك قوى خارقة تجعله يلقي بنفسه في طفولته من سطح المنزل ظناً منه بأنه رجل خارق وقد يطير. ولكن لم يجني من ذلك إلا ارتعاشة دائمة في أطرافه لم تهدأ إلا حين يرتدي بدلة الحصني، معلناً عن نفسه الحصني الثامن، الذي يصرح: (نحن اليوم لا نحتاج إلى أسطورة، نحن اليوم نحتاج إلى بطل، بطل يكشف عن نفسه بصراحة.. علينا إزالة تلك القاعدة القديمة التي تمنع الحصني من الخروج في وضح النهار، يجب على الجميع أن يعرف أن هناك حارسا مقنعاً على هذه البلد. بالعكس سيتحول الحصني إلى رمز لكل ما هو حق.)
يصنع حمادة في روايته سلسلة من الأحداث والتحولات التي تتطلب سرداً سنمائياً نجح به، فالمشهدية العالية جعلت العمل يواكب الثيمة التي ينتمي لها العمل، وهي ثيمة الأبطال الخارقين وحياتهم السرية والعلنية. لكنه وقع في عدة فخوخ أهمها اندفاعه للموضوع الذي لم تكن الشخصيات جاهزة له، ولم تكن قادرة على النجاة منه، فقد ذابت الشخوص في مخاض الأحداث المتوالية في العمل، دون أن تترك لذاتها ما يميزها عن شخصيات شبيهة لها في حكايات الأبطال الخارقين العالمية كشخصية (بات مان). كما أن هذا الاندفاع للموضوع جعل النص الروائي في لحظات عدة أشبه بمحاضرة نقدية، تتفوه به الشخوص دون مراعاة للاختلافات الثقافية التي تخص كل منهم، وهذا ما حول النص الإبداعي إلى أداء خطابي في أحيان كثيرة، لكنه يسارع بأحداث تشله من الخطابية.
لولا أن تكثيف العمل بـالأحداث، يجعل من العسير الإشارة إلى لحظة التنوير في العمل، والذي من خلاله انجرفت شخصية العمل (بندر) إلى التغيير، فهل ارتطام رأسه بالأرض في طفولته والارتعاش الدائم الذي جناه هو الحدث المغير في العمل؟ أم لقاؤه وأصدقاؤه بالباحث أحمد الذي عرفهم بسيرة الحصني، أو أم لحظة تعميده حصني ثامن يكمل سيرة الوثيقة التاريخية، أم إعلانه اعتزاله عبر اليوتيوب لأنه آمن بانتهاء دور الحصني؟ أي حدث من كل ذلك هو لحظة التنوير؟ لا أدري، فانفلات الأحداث من يد السارد بهذا الشكل يجعلني كقارئ أتيقن أكثر بأن الرواية تقترب إلى كونها حكاية متورمة ضمت جملة من الحكايات المتجاورة، التي تم توظيفها لأجل أن تكتمل بطولة الحصني، على حساب شخوص طارئة في العمل، والتي نساها الكاتب في خضم سرد جارف وأحداث متسارعة، فشخصية سيدة خان، والتاجر فواز وزوجته ميمي، وأبو عبدالله والمدير لؤي وحمني ودانة وقصتها مع صديقه، شخصيات زجوا في العمل بلا هوية تخصهم، ولم يكن هناك ما يستدعي تواجدها في العمل، إلا أن حضورها كان لتمرير فكرة نقدية أو تعليمية، وبمرات أخرى لتحقيق حدث، وتنسى بعدها في مهب سرد مكثف مفتون بحكاية الحصني أو بندر وبطولاته.
برع أحمد حمادة في بعض الفصول، خاصة تلك التي يتحدث فيها عن حكايات الحصني القديمة التي عنونها بـ “من أوراق الحصني” من مثل حكاية حكاية بندقية ١٩٢٠” التي يعود إليها الظهور الأول للحصني مقاتلا بجانب الكويتين، و“حكاية مطر ١٩٣٤”، و“حكاية جمل ١٩٨٢” و“حكاية حرب١٩٩٠”، بخلق وثيقة تاريخية لشخصية لم ينتبه لها التاريخ كما يجب، كان القصد من ورائها تعميق البحث عما هو مسكوت عنه أو البحث عما طمسته الأيادي المتنفذة لأجل رغباتها. حيث عبرت من خلال سردها ما بعد الحداثي عن حكايات مهمشين لهم حضورهم العاجل في حكاية بندر الأساسية، فكل هذه الحكايات لمهمشين لم يلتفت لهم التاريخ، بل حكايات البطل الحصني والذي همش أكثرمن الضحايا، كتأكيد على أهمية إعادة كتابة التاريخ بتركيز على الحكايات الفردية المنسية لا مرويات المؤسسات الرسمية.
(صور من رباعية “أم السعف والليف“ في مسلسل “كان في كل زمان“، تجسده الفنانة سعاد عبدالله)
بدأت فكرة مراجعة االتراث والشك بما جاء به تستثمر مؤخراً في الإنتاج الثقافي الكويتي، فالحصني مثلاً حققت ذلك جزئياً عبر تسجيل ملف تاريخ يمتد إلى عام ١٩٢٠، فيحيط بهذه الشخصية ويهدم المرويات التي أراد الكثير طمسها ويبني بديلاً عنها مرويات أخرى . كما نجد رباعية “أم السعف والليف” في مسلسل كان في كل زمان ٢٠١٧، للكاتبة هبة حمادة، محاولة سابقة في إعادة كتابة التراث، فأم السعف والليف التي قولبتها المرويات بشكل ميتافيزيقي، حتى صارت تمثل جزءًا من الذاكرة الجمعية، دون أن يكون لهذه المرويات بحثاً جاداً يقوض المكتوب ويطرح عبره رؤيا جديدة، لولا أن ذلك قد حدث فعلاً في رباعية أم السعف والليف عبر محاكاة شخصية وحيدة منبوذة بسبب شكلها المحروق والذي غالباً ما تحاول إخفاءه بالليف والسعف، فلا ترعب أحداً لولا أن الكل من الصغار والكبار يرتعب من مظهرها إلا أنها امرأة طيبة تعتني بطفلٍ يتيم، ولا تعرف مضايقة من حولها. هذه الجهود في مراجعة التراث المحلي وإن كانت خجولة تمثل بداية لتقويض المرويات التي اكتسبت سلطتها عبر مشترك جماعي يمتد في نطاق جغرافي واسع، إلا أنه ليس جريئاً كفاية فيتطرق إلى مسلمات ما تزال ترهق الحاضر المعاش وأبناءه في الكويت أو الخليج أو حتى الوطن العربي، فما نزال خاضعين إلى كثير من المرويات مسلمين بها دون أن نتطرق إليها لا بالتقويض ولا حتى بالأسئلة.. التي هي أضعف المحاولات وأكثرها هشاشة لنعرف أي جزء من أواهمنا/ خيالاتنا أصيب بالتلف. 🇰🇼
قد يكون هذا العمل بداية جيدة لصنع شخصية رمزية كويتية تخرج من إطارها المدون في العمل، إلى شخصية تمثل في شاشات التلفزيون والسينما، ومن ثم خلق أيقونة تقول عن التاريخ الشفهي الذي نقل إلينا من الماضي دون استثمار بشكل حقيقي، فالتناص الواضح في العمل مع قصص الأبطال الخارقين، لا في الحكاية فقط بل حتى في الثيمة، وبناء بعض الشخصيات والأمكنة التي تدور بها الشخصيات من مثل مختبر سليمان وجاخور ناصر المعزول الذي يصبح مركز عمليات الحصني، وفن لميس في تصميم الأزياء، ينذر بولادة بطل خارق محلي يوازي الأبطال الخارقين العالميين، بتناص متقن مع حكايات عالمية. وهنا ربما أقول عن العمل بأنه للناشئة أكثر، وربما أقول مثل إهداء كاتبه (إلى كل بندر آخر مرتعش في هذه الدنيا، يشقى لتثبيت خطواته في دروب هذه الحياة) ..