إبراهيم محمد نصير /
لست أدري كيف دارت أناملي بأرقام الهاتف ، فإذا بصوت أشنّف به أذنيَّ كلّما سمعتُه ؛ صوت أمّي ، والدتي . قالت : ” نعم .. ” . سمعتُها ، فلم أستطع الرّدّ ؛ انحبستْ كلماتي بقيود الزّمان .
كيف لي أن أخبرها بأنّي لن أكون قادرا على زيارتها منذ اليوم ، كيف لي أن أخبرها هذا وأنا ولدها من نبض رحمها ودم فؤادها وروح من روحها ، هل يمكن أن أكون عاقّا بتلك الكلمات إنْ تدحرجتْ إلى مسامعها ! غير أنّي أعلم وأشهد بعد الشّهادتيْن أنّها هي الشّهادة الثّالثة ؛ هي الأمّ الّتي ترحم ولدها ولو زجّت إلى النّار زجّا .
قلت: “أمّاه … تعلمين أنّهم حظروا التّجمّع والتّقرّب من أجلنا جميعا ومن أجلك بصورة مخصوصة ” . فهِمتْ مرامي ، فهمتْ تردّدي واختلاج صوتي ، فهمتْ ، فأسرعتْ قائلةً بنبرةٍ بدتْ وكأنّي بها أرى ابتسامتها الدّائمة ، قالت : ” أَوَ لا نكون على خير وتكون ؟ ” . قلت : ” بلى يا أمّاه ” . فقالت : ” إذن أبشرْ بالرّضى ، وأبشرْ بالسّلامة والأمان .. فلا يُكدّرنّكَ أنّك غير قادر على زيارتي ؛ فإنّك معي لا تزايلني ، تسكن الفؤاد ، فإنْ كنتَ أنت غير قادر فإنّي قادرة على أن أزورك متى شئتَ ” .
قلت : ” أمّاه … ” لم أكمل ، أصمتَني بلل دمعي يسيل على وجنتيَّ حتّى أحسستُ بملوحته من طرف شدقي . فقالت وقد أحسّت ما أنا فيه : ” ما بك .. أَأَنت معي ؟ ” . أجبتُها : ” نعم . أنت معي دوما وأبدا ” . فقالت : ” الهاتف يُغني ، واتّصالك يُغني ، والسّؤال يُغني ، وصوتك يُغني عن ألف زيارة صمّاء .. فلا تقلقْ عليَّ .. سأنتظر مكالمتك .. ” .
بعد أن انتهت المكالمة جمدتُ في مكاني لستُ مصدّقا أنّي طلبتُ إلى والدتي ، إلى أمّي ، إلى مَن أوجدتْني ، إلى من منها تذوّقتُ شهدَ الحنان ، إلى من ألجأ إليه بعده سبحانه وتعالى ؛ تلك الّتي طلبت إليها مذ قليل أن لن أزورك وهي على مبعدة قريبة !!
ألا ما أقسى الزّمان بنا ، وما أقسى ما يصنعه الإنسان به ! وما أفظع حكمه علينا ! ألا ما أمرَّ ما نمرُّ به في عامنا هذا عام الوباء بجرثومة البلاء ! رفعتُ وجهي وعينانيَ خضّلهما ماءُ الحياء ممّا قلتُ وطلبتُ ، شاكيا ما حلّ بنا ، راجيا ما نأمل به ؛ إنّه على كلّ شيء قدير .