بسبب ضيق الوقت المخصص لمداخلتي، لم أقل كل ما أردت قوله عن خماسية عبد الرحمن منيف، “مدن الملح”، في الحلقة التي عرضتها قناة الجزيرة عن الرواية ضمن البرنامج الجميل “خارج النص”، والذي أعادني على الأقل إلى الرواية التي كنت قرأتها أول مرة قبل 29 عاما، فنفضت عنها ما تراكم من غبار الزمن، وتصفحتها بأجزائها الخمسة من جديد، وخصوصا أنها من الروايات القليلة جدا التي قرّرت الاحتفاظ بها في مكتبتي بعد القراءة، لأجدني في أجواء أخرى ساهمت في قراءة بمستويات أخرى للرواية الخماسية نفسها.
خماسية مدن الملح هي أشهر أعمال منيف الروائية، إلا أنها ليست الأفضل فنيا، فقد انشغلت بفكرة تدوين التاريخ القريب زمنا، واستغرقت منيف فيها تماما فكرة توثيق التحولات التي مرت بمنطقة الجزيرة العربية كما يراها هو، ووفق منظوره الخاص فكريا وسياسيا واجتماعيا أيضا. وقد حاول في “التيه”، “الأخدود”، “تقاسيم الليل والنهار”، “بادية الظلمات”، المُنبتّ (عناوين الأجزاء الخمسة من “مدن الملح”)، أن يغطي، وفقا للمصطلح الصحافي، مساحةً زمنيةً كبيرة تمتد منذ ما قبل اكتشاف النفط وصولاً إلى سبعينيات القرن الماضي، وما طرأ من تحولاتٍ على الإنسان والمكان أيضا. ومنيف نفسه يرى أن “محور موضوع مدن الملح نابعٌ من مشكلة أساسية، عانينا منها كعرب فترة طويلة، وما تزال هذه المشكلة هي النفط”. وهو هنا، في سياق المدن الملحية، تخلى عن موضوعه الروائي الأثير عادة، ليس في رواياته وحسب، بل في كل أدبياته الأخرى، وهو موضوع العلاقة الشائكة بين المثقف والسلطة، والتي انشغل بها حتى في رواية “عالم بلا خرائط” التي كتبها بالتعاون مع صديقه جبرا إبراهيم جبرا.
تغيب الشخصية المحورية، أو كما تسمى في أدبيات النقد العربي شخصية البطل. لا وجود له في “مدن الملح”. أما شخصية متعب الهذال التي افتتحت بها الخماسية بالتيه، فقد تاهت بين السطور والمعالم لاحقا، على الرغم من أن منيف كان من المهتمين دائما ببلورة مثل هذه الشخصيات في رواياته الأخرى مثل؛ “الأشجار واغتيال مرزوق”، و”شرق المتوسط”، و”قصة حب مجوسية”، و”حين تركنا الجسر”، و”النهايات”، وغيرها.
ومع ملاحظة التقاطعات الكبيرة والكثيرة ورصدها بين بيئة مدن الملح الزمانية والمكانية وبيئة المنطقة ككل، وليس فقط المملكة العربية السعودية، إلا أن هذا لا ينبغي أبدا أن يغري قارئ “مدن الملح” بلعبة المقارنات، حتى لو كان المؤلف هو من يريد ذلك، وهو من يعمل على تذكيره دائما بذلك. لماذا؟ لأن الرواية ليست تاريخا، والروائي ليس مؤرّخا، والشخصيات التي يرسمها الروائي في رواياته ليست حقيقية، حتى لو تشابهت مع الشخصيات الحقيقية في الواقع على مستوى الأسماء والأفعال. ولا يصحّ أبدا أن نقرأ الرواية على أنها وثيقةٌ تاريخية. حتى لو استفدنا منها في قراءة بعض معطيات التاريخ الأخرى، على صعيد هوامش غالبا لا يلتفت إليها المؤرخون باهتمامهم نفسه بالأحداث الكبرى.
وفي مقابلاتٍ كثيرة معه، كان منيف يتحدّث عن اجتهاده في جمع المصادر التاريخية، وذكر ما عاناه في سبيل ذلك. وهذا يعني أنه كان فعلا يريد لقارئ “مدن الملح” أن يعرف التاريخ عن طريق الرواية، لكن الروائي لا يملك حق الوصاية على القارئ كما أرى، وهو أساسا لا يملك ترف موضوعية المؤرّخ، وإلا لفقد جزءا أصيلا من معناه مبدعا. وهذا يعني أيضا أن معرفة عبد الرحمن منيف بالتاريخ، واجتهاده في ملاحقة مصادره، لا يمنحانه حق أن يكتب التاريخ بروح الرواية، ويطلب من المتلقي أن يقرأ الرواية ليعرف التاريخ… هذه خدعة غير فنية، وغير إبداعية، ولا تليق بالرواة الكبار.. والقراءة مستمرّة.
(العربي الجديد/ 27 يونيو 2019 )