أحمد ناصر السميط/
((0))
منذ أمد بعيد وأنا أخطط لإطلاق مدونة تحت مسمى ((دائرة الضوء)) ولكن الظروف لم تسمح حتى وقعنا تحت طائلة التباعد الاجتماعي وحظر التجول المفروض نتيجة جائحة كوفيد-19 أو كما هو شائع تسميته جائحة فيروس كرونا، ومنذ الأيام الأولى لدخول الكويت في نطاق الدول التي باتت مصنفة ضمن المناطق الموبوءة قبل شهرين من اليوم تقريباً وجدنا أن أجزاء كبيرة من الارتباطات الثابتة والغير قابلة للتغيير باتت تتصدع وتتفكك في إطار الإجراءات الاحترازية التي بدأ الكل باتخاذها.
((1))
اليوم التحديات كبيرة وكثيرة في ظل هذا الواقع الذي نعيشه، ولعل أصعب تحدي هو وجود كتل بشرية لم تستوعب بعد أننا نعيش في لحظات تاريخية تعيد تشكيلنا كبشر منفردين، وبشرية مجتمعين، هذه الكتل انضوت في عباءتها الكثير من أصحاب العقائد والأفكار علاوة إلى أصحاب النفوس البليدة والعقول الخاملة، ولم يتميز في هذا الإطار عاقل أم مجنون، ولعل تعدد المبررات التي تساق في إطار اللا وعي المتكون في هذه الدائرة تسهم في تعقيد موقف هذه الكتلة التي تشكلت ولكنها أكدت لنا أن الإنسان مهما تقدم ومهما تطورت آلاته وقدراته لا بد أن يظهر لنا من يشكك بسلامة المقصد والنية والغاية من حالة التطور تلك وقدرتها على فرض الواقع على الإنسان، وهذا الإطار يزيل كل قيمة لكل وسيلة وأداة ولا يبقي في ذلك الأمر إلا معيار الإنسان نفسه، وقد يتسائل البعض هل هذا صحيح أم مقبول فأقول لست في مركز القاضي هنا بل لأثير الانتباه إلى ملاحظة وهي أن الإنسان لم تغيره تلك القرون المنصرمة، ولم تفلح آلة العلم وسطوة النظم أن تفرض نفسها على قدراته، لعل الواقع لا يتسع لهذه النظرة المتحررة من القيود لكنها ملاحظة تستحق أن تقرأ بشكل مختلف.
((2))
نحن اليوم نقف على عتبة شهر رمضان المبارك ولكن في هذا العام يهل هلال رمضان في مشهد تاريخي نادر جداً ولا أذكر بحدود ثقافتي البسيطة أن هذا الأمر سبق أن حدث في تاريخ الكويت، فرمضان اليوم في الكويت لن تكون فيه مساجد يصلى فيها الجمع والجماعات، ولن يكون للناس اجتماعات ومناسبات، رمضان جاء في ذروة طغيان الإجراءات المانعة لأي شكل للاجتماع حتى لو كان في بيت من بيوت الله، في ذروة هذا التشدد قدمت أن هناك من لا يعير هذه الإجراءات أي إهتمام، وهؤلاء هم يعزز هذه الاجراءات بشكل أو بآخر، أي إننا واقعين تحت نير السلطة النافذ أمرها بسبب المواطن والمقيم اللامبالي!! ويبقى رمضان مميز بكل أحواله ولن يزيده هذا الواقع إلا تميزا بإذن الله.
((3))
من الوقائع اليومية التي نعيشها اليوم هو طغيان التكنولوجيا ودورها المباشر والكبير جداً في تعزيز التقارب الاجتماعي بين مختلف فئات المجتمع من جهة، ومن جهة أخرى أثبتت تلك الوسائل التقنية بأنها قادرة على خلق بيئات عمل إنتاجية بشكل أكبر ، فاليوم يبيت الكثير من الموظفين والمعلمين والمتعلمين يعملون خلف منصات رقمية أو في بيئات تعتمد على الشبكة العنكبوتية، وللمفارقة فإن هذه الأدوات كانت أبرز عازل لنا في بيئاتنا الخاصة ومازالت للأسف فالواحد منا اليوم هو شديد إلتصاقاً بشاشة جهازه الذكي من التصاقه بأقرب الأقربين له، هذا التباين بين المنفعة والمفسدة المتحققة في ذات الشيء المعني تؤكد لنا بأننا نستطيع تكييف الواقع بما يحقق لنا أكبر قدر ممكن من الفوائد المرجوة في حال كنا حريصين، ويقابل ذلك حالة الإفراط الغير محدود التي بدورها قد تضيع علينا الكثير من الفرص وتحرمنا من مساحات كبيرة من الفوائد الممكنة.
((4))
لا شك أن القيود التي فرضت لإبقائنا في منازلنا ساهمت في إدراكنا لقيمة كدنا أن نفقدها وهي قيمة الأسرة واجتماعها، كانت السنوات الماضية من أكثر المراحل التي كنا نتابع فيها بروز فكرة وقت الأسرة ووقتي الخاص، وتدريجياً وصلنا إلى مراحل تقلصت فيها مساحة الأسرة وتعززت مقابلها مساحات أوقاتنا الخاصة، أما اليوم فإننا ننعم بأجواء أكثر قرباً وانسجاماً مع أحبائنا، اليوم نعيش أوقات ممتعة و حوارات كثيرة مع زوجاتنا وأبنائنا، واليوم أصبحنا قادرين على تقييم حقيقة علاقة بعضنا ببعض، الواقع الأسري اليوم يؤكد بما لا يدع مجال للشك بأن أقرب الناس لنا يستحقون منا عناية أكبر ، وأن أوقاتنا الخاصة التي كانت تصرفنا عنهم لا بد أن يعاد تقييمها ومعرفة ما إذا كان من الأولى أن تصرف تلك الأوقات لهم.
((5))
في نهاية المطاف جاءت هذه الجائحة ببيان صادق بأن خلافاتنا وأزماتنا الشخصية لا تستحق منا كل تلك الجهود، وأن أنفسنا عزيزة تستحق منا أن نتجاوز ونتخلى ونؤمن بقيمة اللحظات الجميلة على بساطتها فهي البقية الباقية التي تستحق أن تذكر.
)الخميس ٣٠شعبان١٤٤١هـ الموافق ٢٣ أبريل ٢٠٢٠ م(