امرأة ثلاثينية عارية يحتل جسدها بأنوثته الباذخة مساحة الشاشة بأكملها، وتاريخ نازي أسود تسيل على جنباته دماء ثلاثمائة امرأة قتيلة، وغموض لا تبدده تلك الحوارات المبتسرة بين المرأة العارية وحبيبها اليافع، و.. و..ومع ذلك فقد أحببتها. نعم، هذه هي المفردة المناسبة لذلك الشعور الذي تملكني شيئا فشيئا وأنا أتابع فيلم “القارئ”، وأتماهى مع الشخصية الرئيسية فيه لدرجة الانمحاء تحت وطأة حضورها الباهر وجبروته المهيمن ليس على الشاشة وحسب بل الحياة في الصورة التي يقدمها ذلك الفيلم أيضا، حيث الحب ينهض من فعل القراءة، وترقص الكلمات على موسيقى الجسد المرتعش باللذة، وتختلط الحقيقة بالوهم، والواقع بالتاريخ والمستقبل.
أما لماذا أحببت تلك المرأة ذات السلوك الجنسي الذي يبدو في شكل من أشكاله مبتذلا مع فتى تكبره بعشرين عاما!، فربما لأنها أجابت على الكثير من الأسئلة التي تؤرق الكائن البشري بفيض من العذوبة والكثير من البساطة والبذل الجسدي وبدون كلمات كبيرة كالتي نقرأها في الكتب.
فاز الفيلم الذي أنتج العام المنصرم عن قصة للكاتب الألماني بيرنهارد شلينك وبتوقيع المخرج ستيفن دالدري، بعدد لا بأس به من الأوسكارات أهمها اوسكار أفضل ممثلة أولى لبطلته الممثلة الانجليزية كيت وينسلت التي أدت دورها ببراعة لا تتكرر كثيرا خاصة وأنها استعانت بكل خلية في جسدها بأكمله لتكون أمامنا تلك المرأة الألمانية التي تخرج من الحرب العالمية الثانية بشغف لا ينتهي تجاه أبسط الأشياء وأكثرها تعقيدا في الحياة؛ الجنس والقراءة والأمومة. فتعيش ذلك الشغف المثلث في حياة واحدة ومع شخص واحد، ولأنها أمية لا تعرف القراءة فقد أسست الفعل الجنسي المرتبط بغريزة الأمومة على فعل القراءة، فلا تمنح ذلك الشخص الواحد جسدها ولا عاطفتها ولا اهتمامها إلا بعد أن يقرأ لها كتابا يختاره بعناية توافق مزاجها الرهيف والمفرط في حساسيته تجاه البشر ومصائرهم كما يرسمها الروائيون العظام. كانت امرأة تعرف كيف توجه حواسها للشعور باللذة القصوى وكان فتى غرا يخطو خطواته الأولى نحو اكتشاف جسده ومكامن اللذة فيه. وكان ما بينهما أبسط من كل ما قرأه لها من الكتب طوال صيف كامل هو عمر علاقتهما التي انتهت على نحو مفجع وغامض. تختفي المرأة من حياة ذلك الفتى تاركة وراءها دموعا كثيرة، لكن الدموع ستكون اكثر عندما تظهر بعد سنوات في قاعة لمحاكمة مجرمي الحرب من النازيين فتختار الحكم بالمؤبد بدلا من الاعتراف أمام الملأ بسرها الصغير وهو أنها أمية لا تعرف القراءة والكتابة، وبالتالي لا يمكن أن تكون المسؤولة عن كتابة تقرير أودى بحياة ثلاثمائة امرأة يهودية في الهولوكوست. وكان بإمكان عاشقها الصغير أن يشهد لصالحها لكنه توارى وراء دموعه خوفا من الفضيحة.
كانت المشاهد السينمائية المشغولة بعناية فائقة والمسيجة بحرفية عالية استغل فيها المخرج أسرار الضوء والظل، تتتابع في تواتر نفسي أخّاذ، وكانت المرأة هي المرأة في كل مشهد. أنوثة مرعبة، وصوت حنون، وقبل كل هذا وبعده خفر حقيقي، رغم عري الجسد وربما بواسطته !، تعبر عنه عينان تجيدان جميع لغات الأرض.
لكن الفيلم ينتهي بالسيدة الجميلة جدا التي أصبحت عجوزا فانية اشتعل رأسها شيبا، وهي تتسلق نحو المشنقة التي نصبتها بنفسها لنفسها على كومة من الكتب، فلم تعد للكلمات قيمة في حياة تلك السيدة فقررت أن تتخلص منها، من الحياة لا من الكتب، بواسطة الكتب، بعد لقاء قصير مع ذلك الفتى الذي بدا لها طوال سنوات السجن وكأنه خلاصها الأخير، وخصوصا بعد أن بدأ يرسل لها كتبها المفضلة مسجلة بصوته الأثير، وعندما اقتربت تلك اللحظة تلاشى الحلم وتبدد في ضوء الواقع وتعقيداته الاجتماعية والفكرية، فأي أفق لعلاقة بين الاثنين بعد كل هذا التاريخ المثقل الخيبة؟.
فيلم القارئ، احتفاء بالشغف في ابسط صوره وأعمقها من خلال الحواس وحدها، ومنذ لقطته الافتتاحية حيث يقوم البطل (لا أستسيغ هذا الوصف الشائع للشخصية الرجالية الرئيسية في أي فيلم!!) بصب القهوة في الفنجان بمنتهى العناية والأناة وانتهاء به وهو يحكي لابنته حكاية المرأة التي قابلها في صباح ممطر فعلمته سر الحياة بواسطة جسدها الجميل وأمومتها الرءوم ، ولم يقدم لها شيئا مقابل ذلك ..فقط قرأ لها بعض الكتب !.
ـــــــــــ