حتى أولئك الذين لا يريدون التوقف طويلا عند أي طقوس دينية خاصة، لأسباب تتعلق بأفكارهم المسبقة عن الدين، لا بد لهم من تجربة العيش في خصوصية شهر رمضان، إن لم يكن على صعيد العبادات، فعلى صعيد العادات. على أن قدسية الشهر الكريم لا جدال عليها بين الجميع تقريبا، ولهذا لا أفهم ما أصبح يشكل ظاهرةً في منصات التواصل الاجتماعي تحت مظلة السخرية والمزاح من مستلزمات الشهر الفضيل ومتطلباته، فبعض “النكت” التي يروّجها بعض مشاهير التواصل الاجتماعي هذه الأيام عن رمضان تشعرك بالقرف. لقد أصبحوا يتساهلون بترويج هذه النكات السخيفة ضد شعائر الشهر الكريم، بحجة أنها للضحك والمزاح فقط، ولا يعلمون، وربما يعلمون فعلا، أثرها السيئ المباشر وغير المباشر في نفوس متابعيهم من الناشئة الصغار.
أحد هؤلاء المشاهير رصدت له، خلال اليومين الأولين من الشهر، مجموعة من هذه النكات التي حاول فيها تحويل رمضان من شهر عبادة وفرح وطاعة للرحمن إلى ضيف ثقيل، نمتنع فيه عن الطعام والشراب، وكل المتع الأخرى، مكرهين، ونتمنّى رحيله، والخلاص منه في أسرع وقت.
ألا يكفي أن الشهر الذي تنزل فيه الهدى والفرقان، ويتحرّى المسلمون فيه ليلة القدر المباركة، ويحاولون فيه البحث عن ثغرات الإيمان في نفوسهم، قد تحوّل إلى موسم درامي، يسوق فيه المنتجون الفنيون مسلسلاتهم وبرامجهم الجديدة، والتي لا يناسب كثيرٌ منها خصوصية هذا الشهر، ومكانته في نفوس المسلمين، بدلاً من أن يكون موسماً مناسبا، كما كان في السابق ومنذ نشأة التلفزيون في البلاد الإسلامية، لترويج الأعمال التلفزيونية وتسويقها، وهي التي تقارب في مضامينها المعاني الأخلاقية والتربوية، حتى وإن كانت معاصرة وغير تراثية؟
نعم.. لقد تعوّدت الأسر على أن تخصص بعضا من أوقاتها الرمضانية للتلفزيون، ما يساهم في تنويع مصادر متعتها بهذا الشهر، ولا ضير في ذلك، بل من أجمل ذكريات طفولتنا في رمضان ما تتعلق بما كنا نراه على الشاشة في هذا الشهر، لا في سواه. وعندما أستهجن، هنا، تحول رمضان، في شكله الإعلاني، إلى شهر تلفزيوني بامتياز، لا أدعو إلى عدم بث المسلسلات ومتابعتها في هذا الشهر، لكنني أتمنّى ألا تكون تلك المسلسلات هي الأصل في تمييز رمضان عن غيره من شهور العام، كما يحدث الآن فعلاً لدى كثيرين! وجاء بعض مشاهير التواصل ليرسّخوا الصورة “الفنية” وحدها لرمضان، بتعليقاتهم ونكاتهم ودعاياتهم.
رمضان شهر عبادة وفرح بالعبادة، وشهر طاعة وتفنن في ابتكار منافذ جديدة للطاعة، بالحرص على صلة الرحم، وتفقد من حولنا من المحتاجين، ومحاولة مساعدتهم قدر الاستطاعة. وهو أيضا وأولا شهر تفكر وتدبر وتأمل في آيات الله البينات، قرآن نحاول أن نعيشه تلاوة وواقعا، وإنسان نجتهد أن نكونه كما يليق به عندما استخلفه الله على الأرض، وإن على سبيل التجريب، وخلق شامل، ولا ضير من بعض المتع في الفن والطعام والقراءة والكتابة والسماع وغيرها من متعنا الدائمة خارج شروط الوقت، فلماذا تحوّلت كل هذه المظلة الواسعة التي يظللنا بها خير الشهور ثلاثين يوما، لدى كثيرين، إلى مجرد مناسبة سنوية لمتابعة المسلسلات، وابتكار الأكلات، وحضور الحفلات بمختلف التسميات.. وحسب؟
رمضان شهر جميل. وربما يجدر بنا أن نحاول معاودة التفكير في العيش في أجوائه كما يليق به تماما، وكما يرسّخه قيمةً في نفوس الناشئة، فلا نعيشه طقسا دينيا وحسب، ولا مناسبة إعلانية أو منصة تلفزيونية سنوية، بل هبة إلهية، نعود فيها إلى أنفسنا، وإلى نزعة الاعتدال فيها.. فنحط الرحال المتعبة طوال العام.. لنكون نحن كما نشتهي أن نكون في رحاب الله، وهوى النفس الأمّارة بالحق.
(العربي الجديد/9 مايو 2019)