سعدية مفرح/
مرّة أخرى، يباغتني السيد الموت، ويتسلّل فجأة إلى واحدةٍ من أجمل لحظاتي على الإطلاق، ليحيلها إلى العدم وبؤس الذكريات المجلّلة بالنحيب وحسب.
مرّة أخرى، يأتي كما يأتي دائماً، بغرور من يعرف كيف يضع النقطة الأخيرة في نهاية الحكاية، فلا يترك مسافةً لكلمة جديدة، ولا يسمح بأي مراجعةٍ قد تُطيل من عمر تلك الحكاية، وإنْ بتفاصيل مكررة.
مرّة أخرى، يقنعني، أنا المقتنعة دوماً على الرغم من آفة النسيان وطمأنينة الصلاة السرمدية، بأنه هنا.. دائماً وأبداً، وإن توارى قليلاً خلف ستائر البهجة ودعوات العمر المديد.
مرة جديدة حارقة وموجعة، ولا أكاد أتبيّن فيها ثغرة للأمل، ولا للمنطق السهل كما أعرفه وأركن إليه، ليكون ملاذي، عندما تنتابني الهواجس من فقد الأحبة.
وهي مرّة ثالثة في تاريخي الشخصي الحميم جداً التي أخوض فيها، من دون أن أدري أو أن أقرّر، معركة خاسرة مع القدر، قبل أن تبدأ، فألمح شبح الموت يقف على حافّة محاولتي الفاشلة، متلمظاً بثقة المنتصرين الذين يعرفون جيداً كيف يختارون اللعبة، ومتى يبدأونها وأين، وكيف ينهونها بالضربة القاضية غالباً، حتى قبل أن يسمع الخصم صفارة البدء!
كنت في كل من المرّتين السابقتين التي وجدتني فيها بمواجهة الموت، واحدة بعد الأخرى، أستسلم على وعدٍ مني لنفسي ألا أنتبه في المرة المقبلة للمعركة كلها، لأنها ليست معركتي، ولأنني مجرّد جمهور خاسر على مدرج الخيبة الأبدية، وأن اليقين بالخسائر المتتالية هو ما يليق بي وحسب.. لكنني أنسى كلما نظرت في عيون من أحب ممن حولي، أما الموت فلا ينسى ولا ينساهم ولا ينساني.
عندما أتى السيد الموت هذه المرة ليخطف الرجل الأول في حياتي كلها، بدا وكأنه يضع توقيعه المرعب على حافة العمر، ويجردني من بقايا قوتي التي أواجه بها مكائد الأيام! فمن رحل لم يكن مجرد جدار أسند رأسي عليه كلما أرقتني تصاريف الدنيا، بل كان “أخي”، وكانت هذه المفردة جبلاً حقيقياً، تبدو بجانبه كل جدران الدنيا مجرد وهم، وها هو الجبل وقد تهاوى فتكدست حجارته فوق رأسي لتشعرني بعجزي المضاعف في غيبة من رحل!
هكذا هو الموت، وهكذا هي قوانينه، بل قانونه الوحيد الذي يقضي بالتسليم له فقط، وبكل أحواله وحالاته ومقتضياته. ذلك أنه لا يعترف بالخصوم، ولا يراهم في محيط اهتمامه، وذلك أننا لا نعرف، حتى أن نكون خصوماً له، ما دمنا قد سلّمنا بقانونه الأول والأخير، وآمنا بأنّا لله وأنّا إليه راجعون، وأن الطريق الذي نرجع عبرها إلى الله سبحانه وتعالى هي الطريق التي تسمّى الموت، حيث تبدو الحياة معها دائماً مجرّد عبور.
كل حياة، تطول أو تقصر، هي عبور وحسب إلى ما نؤمن بأنه البقاء الأخير والخلود الأبدي تحت ظلال الرحمة التي بها نوعد وبرجائها يستمر الأمل!
قبل أسبوع تقريباً، فقدت أخي الكبير، والذي لظروف عائلية دقيقة حتمت عليه أن يكون الرجل الأول في البيت منذ كان في السادسة من عمره، أصبح بمثابة والدي وصديقي.. وربما ابني أيضاً. فكان مناصري في كل محاولاتي كسر الجدار الاجتماعي الصلد حول وجودي المستقل المبكر، وشريكي في كل قرارٍ اتخذته في حياتي، وسندي في كل مهمةٍ بادرت إليها، على خلاف رغبات معظم أفراد العائلة الكبيرة حولي، ورفيقي الذي تنازل دائماً عن الهالة الذكورية الكبيرة حوله، ليتيح لي أن أبحث عن أناي كما أشتهيها، قدر الإمكان. وعندما اعتقدتُ أنني وجدت هذه الأنا ورحت أكرسها بالكتابة والشعر كان هو جمهوري المنفرد الهائل الذي يصفق فخورا فرحا بكل إنجاز أوفق فيه، ويهون كل فشل أو خيبة أمل أواجهها!
كان يذهب بي إلى حدود الوعي في دوائره الواسعة جداً على قسوتها أحياناً، مقابل كلمة واحدة زرعها في يقيني وحرصت عمري كله على أن يبقى مؤمناً بها وبي؛ فقد كنت في السابعة عشرة من عمري عندما قال لي وهو يواجه الدنيا بي وبخياراتي الحرة في بيئة قبلية تقطف أحلام الفتيات عند بوابة الدراسة الجامعية المختلطة؛ أنا أثق بك، فقلت له؛ لن تندم!
رحل أخي أخيراً وهو على مشارف الستين من عمره، مفعماً بحيوية الذين يظنون أنهم سيمضون بقية الحياة بطاقة الشباب الأول، وابتسامة الفرح الأول، وخفّة الدهشة الأولى في كل ما يراه من تصاريف القدر، فلم يأبه لعمرٍ يمضي، ولا لإشاراتٍ على أمراضٍ تأتي بها السنون، ولا لهموم تراكمها ظروف الحياة الصعبة.. ذلك أنه اعتاد على الفوز في كل معاركه التي كان يخوضها أعزل من كل سلاح، إلا سلاح إيمانه بضرورة أن يكمل ما بدأه؛
كأن يطمئن على أشقائه الذين بقي ينظر إليهم دائماً نظرة الأب إلى أطفاله، على الرغم من أن سنوات قليلة جداً تفصل في العمر بينه وبينهم كل على حدة.
وأن يطمئن على بناته “الستة اللي كلَبوهن جميلات”، كما كان يحلو له أن يصفهن بشطر بيت شعر شعبي، كان هو البيت الشعري الوحيد الذي قاله في حياته، ليكون شعاره في علاقته بهن، منذ أن اكتمل عددهن في قلبه حباً وزهواً بهن وبوالدتهن.
وأن يطمئن على أبنائه الأربعة الذين قدّر الله أن يكونوا صغاره المنتظرين على مقاعد الجامعة والمدرسة، ليكبروا كما كبر هو قبل الأوان بكل أوان.
وأن يمارس هوايته الأثيرة في حضور حفلات التخرج لأبنائه المتفوقين حتماً، بفرح اللحظة وقلق الغد.. وما بينهما من رجاء بما عند الله وحده.
وأن يجد الإجابات المناسبة على أسئلة صغاره عن معنى مفردة “وطن”، كلما عاد مرهقا من “المراجعات الرسمية” بأوراقه المهترئة و”معاملاته” المحشوة بالخيبات المريرة والشكوك القاتلة.
وأن يتفرغ ذات يوم ليكتب عن ذكرياته في المعتقل عندما كان يتماهى مع وطنه الغائب أسيراً في ليل الاحتلال الطويل!
وأن يحيي ذكرى والدته يوم السابع عشر من رمضان بحكايات دامعة عن نضالات السيدة الجسور، المنكبة على مكينة الخياطة يقيناً بالدنيا والآخرة ومنطق الصبر فيهما.
وأن يعيد ترتيب فوضى الحياة الفائضة بالهموم حوله، بأسبرينة لتسييل الدم المتخثر في شرايين قلبه، وابتسامة لتسييل النكد المتخثر في شرايين الأيام والليالي!
وأن .. وأن .. لكنه رحل، فحطّت النقطة بنهاية السطر الأخير، قبل أن تكتمل الجملة.
كان عزائي الكبير الذي تذكرته وسط هشيم الجبل المتهدم فوق رأسي صباح العاشر من يونيو الجاري، أنه لم يندم أبداً!
ربما أني لا أجيد مجاراتك بالمفردات اللغوية كونك سيدة الأدب واللغة ولكنني أعي وأعرف جيدا ماتشعرين به كوني اعرف أبا فهد جيدا وكنت دائما ملاصقا له واعرف مايتصف به من حكمة ودهاء ورجوله وهيبة وأيضا اعرف جيدا ان من لم يعرف ابا فهد لن يستطيع أن يشعر بما نشعر به لفقدان الجبل وماخلف بعده من إنهيارات .
وأعرف أيضا انه مهما بكينا وانتحبنا لن يرجع ، رحمك الله يامن كنت لنا اخا وصديقا ملهما
عظم الله لكم الاجر
انها الحياة نعيشها بحلوها ومرها بعذابها وسعادتها الى ان يحل بنا الموت هكذا كان ابائنا واجدادنا والعالم .