كلما حقّق مهاجر أو لاجئ عربي موهوب في الغرب نجاحاً لافتاً، وإنجازاً مهماً، تذكّرنا، من جهة، خيبات من بقوا في أوطانهم من الموهوبين يتجرّعون حسرات اللامبالاة وويلات التجاهل والنكران، ومن جهة أخرى، ثار سؤال الهوية والانتماء لأولئك المنقسمين بين هويتين وانتماءين من جهة أخرى. وفي خبر فوز الممثل الأميركي من أصل مصري، رامي مالك، أخيرا بجائزة الأوسكار عن فئة أفضل ممثل، مثال على ذلك النقاش المتعدّد المستويات في تلك الحالات.
رامي مالك مهاجر من الجيل الثاني، أي أنه ولد في الولايات المتحدة لأبويْن هاجرا من مصر. وعلى الرغم من أنه نشأ وتعلم في بيئة أميركية خالصة، إلا أنه، كما بدا لنا على الأقل، من كلمته القصيرة التي ارتجلها بعد الإعلان عن فوزه بالجائزة، يحتفظ بكثير من ثقافته العربية المصرية، الموروثة من والديه، والمكتسبة من تربيتهما له. فلم يتجاهل رامي، كما يفعل كثيرون غيره، جذوره الأولى، حيث أعلن، بما يشبه الاعتزاز الواضح، قائلا: “أنا ابن مهاجريْن من مصر، وأنا من الجيل الأول في عائلتي الذي ولد أميركياً”. وهذا يعني أنه مدركٌ تماما هويته الثنائية التي أضفت على فوزه معنى إضافيا، علاوة على المعنى المباشر لفنانٍ شاب، وشبه مغمور تقريبا، يفوز بأرقى جوائز الفن السابع، وهو في الثلاثينيات، متفوقا على منافسين كثر أكثر شهرة منه!
هل هو الحلم الأميركي إذاً الذي تجسّد في تلك الحكاية البارقة بين أضواء ليلة الأوسكار، وجعلت قصة رامي مالك تتجاوز المعنى الفني وحده؟ أم أنها حكاية الهوية الملتبسة، والتي قلما ينجو من تبعاتها أحد من الجيل الأول في سلسلة أي عائلةٍ مهاجرةٍ باعتباره الجيل الذي كتب عليه، أم يكون همزة الوصل بين جيليْن، يتوزعان هويتين مختلفتين؟ أم أن توقيت الحدث الذي جاء في خضم سياسة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، المعادية في مجملها للمهاجرين، والداعية إلى التضييق عليهم، هو الذي كثف الإضاءة المسلطة على تمثال الأوسكار الصغير الذي حمله رامي مالك مبهورا به، وهو يبحث بعينيه عن والدته التي تجلس كما قال في مكانٍ ما بين الجمهور؟
كل هذه العوامل صنعت الحدث بتميزه، وجعلت منه حكايةً جديدةً في سلسلة حكايات الهويات القاتلة، وفقا لتعبير أمين معلوف الذي حاول التنظير لها بكتابٍ يحمل العنوان نفسه.
لكن المثير حقا في تداعيات الخبر، وما وراءه، أن هناك من استكثر على المصريين والعرب أن يفرحوا بفوز ابنهم المهاجر إلى الغرب، باعتباره لم يعد مصريا أو عربيا، وأن أي نجاح أو إنجاز يحققه، هو أو غيره من المهاجرين واللاجئين وأبنائهم الذين ولدوا في بلدان المهاجر اللجوء لا يمكن أن يُنسب لبلدانهم أو بلدان آبائهم الأولى، لأنهم لم يعودوا ينتمون إليها؛ فرامي مالك أميركي وليس مصريا، وزها حديد بريطانية وليست عراقية، وستيف جوبز أميركي وليس سوريا، وزين الدين زيدان فرنسي وليس جزائريا، ونسيم حميد بريطاني وليس يمنيا، وأحمد زويل أميركي وليس مصريا.. والأمثلة كثيرة، للناجحين في بلدانهم الجديدة على اعتبار أن هذا النجاح لم يكن ليتحقق لهم، لو بقوا في بلدانهم الأصلية. ولكن، ألا يبدو أن في هذا الفهم الضيق لمعنى الهوية وتعريفها إجحافا بحق هؤلاء الناجحين المنجزين قبل غيرهم ممن فرحوا بهم، وصفقوا لهم في بلدانهم الأولى؟ معظم هؤلاء، إن لم يكن كلهم، أعلنوا، بصيغةٍ أو بأخرى، اعتزازهم بانتماءاتهم القديمة، واعتبروها جزءا من هويتهم الكلية.
والهوية ليست مفهوما أنانيا إلى هذا الحد الذي يسلب من المرء جزءا كبيرا من تكوينه الثقافي والاجتماعي والتاريخي، لصالح الجزء المستجدّ، والذي خدمته فيه الظروف ليحقق فيه أحلامه على هذا النحو المتسق مع ثقافة البلاد الجديدة، وأسلوب الحياة فيها.
(العربي الجديد 28 فبراير 2019)