لم يكن سر حبنا فيه غامضاً، فقد انكشف منذ زمن طويل على مساحة شاسعة من الفن الأصيل الذي لم يكن لتستطيع الحدود أن تؤطره في مكان واحد، أو إيقاع واحد أو مزاج واحد.
إنه الفنان الذي تجاوز الجغرافيا لكنه لم يغادر الجذور أبداً، وهو الفنان الذي اتكأ على الثقافة لكنه لم يبرح منطقة البهجة في صوته وأدائه، وهو الفنان الذي توزعته هويتان وطنيتان لكنه لم يفقد إيمانه بفكرة الوطن بغض النظر عن جواز السفر الذي يحمله في جيبه. وهو الفنان الذي تغلب على ثقل التاريخ في محيطه المكاني، حيث النشأة، برهافة الحس الموسيقي وثراء الثقافة اللغوية.
رحل مطلع هذا الأسبوع الفنان اليمني السعودي، معاً، أبو بكر سالم بالفقيه تاركاً وراءه إرثاً غنائياً حافلاً بالتنوع على صعيد الكلمات والألحان لكن صوته وحده بقي البوتقة التي صهرت كل ذلك التنوع لتقدمه في أغنية قاومت كل عوامل التعرية التحديثية العابرة لتصبغ هويته الخاصة دائماً.
في ظهوره الأخير بمناسبة اليوم الوطني السعودي، قبل شهرين تقريباً، بدأ الرجل العملاق واهن الجسد متعب الصوت، يجلس على كرسيه المتحرك في وسط المسرح بين جمع من الفنانين أغلبهم ممن تتلمذ على أغنياته، لكن وهج الفنان فيه لم ينطفئ، حيث ملأ الفضاء المسرحي ما بين الخشبة والجمهور حضوراً قلما يتكرر لغيره.
كان المرض قد أخذ منه كل مأخذ، فخانته حنجرته وهو يحاول أن يستعيد أغنيته الوطنية الجميلة «يا بلادي واصلي..»، قبل أن يستسلم لوطأة المرض معتذراً من الجمهور الحاضر وهو يشير إلى حنجرته، فأكمل الجمهور المحب الأغنية ربما ليوصل رسالة عفوية بأنها باقية كما غنيتها أول مرة!
لم تكن طبقة صوت أبو بكر سالم المشحونة بفخامة تتمدد عبر النغمات على اتساع المدى كله هي وحدها ما ميز هذا الفنان، بل إن ميزته الأولى بعد الموهبة الفطرية الثقافة الرفيعة التي جعلت منه أحد الفنانين العرب القلائل القادرين على تمثل نصوص أغنياتهم والمشاركة الفعلية في صياغتها النهائية. فلم يكن صاحب الدان الحضرمي المميز ليغني كلمات لا يستطيع التفاعل الوجداني معها، ولم يكن ليسمح بموهبته أن تتردى نحو سطحية الأغنية مهما بلغت من تميز على مستوى اللحن والإيقاع. وهكذا أمضى هذا الفنان المخضرم ستين عاماً من عمره ما بين حضرموت في اليمن، حيث ولد ونشأ والرياض في السعودية، حيث استقر، مرورواً بعواصم الدنيا في تنويعات غنائية أبرز فيها ألوان الجنوب العربي الموسيقية العريقة عبر اللغة العربية الفصيحة ولهجاتها العامية ودائماً بصوت هادر كان يتماوج مع خصوصيته اللحنية في إيقاعات عدن وصنعاء!
وربما كان أبو بكر سالم هو الوحيد من المغنيين العرب الكبار الذي غنى القصائد العربية الفصيحة من دون أن يشعر المتلقي أنه يغادر المساحة الشعبية في صوته. كان من السهل عليه دائماً أن يضفي روحه الشعبية الخالصة على فصاحته الفطرية ليكشف عن سره الفني الكبير في عشق الأغنية.. حتى عندما يكون العشق «تلف»!
(اليمامة 14 ديسمبر 2017)