كنت سأشير إلى ما فعله ناشر عربي، في سياق التهنئة بفوز رواية “سيدات القمر” للعُمانية جوخة الحارثي بجائزة مان بوكر العالمية، أخيرا، باعتباره أوقح فعل ثقافي أقدم عليه أحدهم هذا العام، لولا أني اكتشفت فعلا لا يقل عنه في الوقاحة، هو تصريح لكاتب عربي عن علاقة الإبداع بالحجاب الذي تضعه المرأة على رأسها، في سياق الحدث نفسه، نفى فيه ضمنيا أن تكون جوخة الحارثي مبدعةً، فقط لأنها محجبة. لقد عزّ على هذيْن “المثقفين” العربيين، وعلى غيرهما، أن تفوز امرأة عربية بجائزة أدبية عالمية رفيعة من دون أن تكون قد خرجت من نادي التعارف الثقافي العربي، المستهلك بأسمائه المكرّسة وأفكاره المتكلسة، فقد أقدم مسؤول دار نشر عربية عريقة على تصرّفٍ غير لائق بكل المعايير الممكنة، عندما قص صورة جوخة من المشهد الذي يجمعها بالمترجمة، ونشر صورة المترجمة وحدها على صفحة الدار الكبيرة، مقرونة بالتهاني والتبريكات لها وحسب، في إشارة منه إلى أن من تستحق التهنئة هي المترجمة، وأن فضل الجائزة يعود إليها. أما المؤلفة، صاحبة العمل الأصلي، فلا تستحق ذلك، وبالتالي لا ينبغي أن يشار إليها، لا باسمها ولا بصورتها!
أما الكاتب فقد كتب منشورا على “فيسبوك” أيضا، أورد فيه حرفيا؛ “المرأة المحجّبة لا يمكن أن تبدع في الأدب، شعراً أو قصة أو رواية”، في إشارة إلى “حجاب الروائية جوخة الحارثي، وأنها لا يمكن أن تكون مبدعةً حقيقية، وبالتالي لا ينبغي أن تفوز بجائزة عالمية. أما وقد فعلت فلا بد أن نشكّك فيها!
ردود فعل أخرى غريبة عجيبة جاءت في السياق نفسه من نقاد ومبدعين وكتاب عرب تصب كلها في الاجتهاد في البحث عن أسبابٍ لفوز جوخة المدوّي غير الإبداع (!) ويبدو أن الخبر المفاجئ قد أصاب القوم بالصمم، قبل أن يتحول إلى لوثةٍ جعلتهم يواصلون الهذيانات التمييزية القديمة ضد كل شيء يفلت من عقالهم الإبداعي والجغرافي والتاريخي، وحتى الجنسوي!
الغريب أن هؤلاء، وهم كثر نسبيا للأسف، لم يثيروا ذلك الغبار في وجه الرواية وصاحبتها عند صدورها قبل سنوات، ولا حتى عند الإعلان عن القائمة الطويلة التي ضمّتها، ثم القائمة القصيرة، لكنهم تذكّروها فجأة، عندما فازت فعلا بذلك الاستحقاق العالمي المهم، فسنّوا سكاكينهم وباشروا بالهجوم! فبالإضافة إلى “حكاية الترجمة” و”حكاية الحجاب”، هناك من تحدّث عن سياسة سلطنة عُمان الخارجية، وعلاقتها بملف التطبيع مع الكيان الصهيوني، وأن هذا يمكن أن يكون السبب، كما تحدّث آخرون عن علاقة “البترودولار” بالجائزة، وهي التهمة الجاهزة لأي مبدع خليجي يحدث أن يحظى باعترافٍ عالمي على أي صعيد. ولا أدري هنا تحديدا ما علاقة عُمان ومبدعيها بالبترودولار أساسا.
أسباب أخرى أشار إليها آخرون باعتبارها تقف خلف فوز روائية عُمانية بجائزة أدبية عالمية، ليس من بينها أنها مبدعة فعلا، وأن الرواية تستحق ذلك، وأنها الأفضل من وجهة نظر لجنة تحكيم مرموقة من بين جميع الأعمال التي تقدّمت للجائزة.. وهذا هو العجب العجاب فعلا. لقد ضمّت القائمة الطويلة لـ”مان بوكر” هذا العام، بالإضافة إلى رواية سيدات القمر لجوخة الحارثي عملا عربيا آخر، هو المجموعة القصصية “نكات للمسلحين” للفلسطيني مازن معروف. ولا أظن أن حفلة التشكيك القميئة التي أقيمت بشأن “سيدات القمر” ستقام حول المجموعة القصصية لو كانت هي الفائزة، فالكاتب هنا غير محجّب! وهو لا ينتمي لجغرافية البترودولار، ولن يكون هناك شك في أن سياسة بلاده الخارجية هي السبب في تأهله للفوز، وبعد هذا كله، لن يتذكر أحدٌ، على الأرجح، دور المترجم فيها. إنه الحضيض الحقيقي الذي وصل إليه واقعنا الثقافي للأسف.
مبارك لجوخة هذا الفوز الكبير. ومبارك للأدب العربي كله هذا البريق الجديد في عيون العالم. وليبقَ المشككون الحاقدون في حضيضهم الأبدي.
(العربي الجديد /6 يونيو 2019)