الرئيسية / ماء الحوار / سيد حجاب: ليس من حق أحد احتكار الاجتهاد في سبيل الوطن

سيد حجاب: ليس من حق أحد احتكار الاجتهاد في سبيل الوطن

سعدية مفرح/ 1 يونيو 2001:

سيد حجاب واحد من أهم شعراء العامية العرب المعاصرين اذ استطاع خلال السنوات الأخيرة هو ومجموعة من زملائه إضافة بصمات مهمة، توجت مسيرة شارك فيها من قبل بيرم التونسي وعبدالله النديم وعدد من الشعراء انتشروا بطول الوطن وعرضه.

بدأ سيد حجاب الكتابة في الحادية عشرة من عمره، تعبيرا عن هموم فقراء الصيادين في مسقط رأسه بمدينة المنزلة التابعة لمحافظة الدقهلية في دلتا مصر، ومنذ ديوانه الأول “صياد وجنية” ثم ديوانه الثاني (اثنتين في القمة)، كتب العديد من القصائد ثم اتجه إلى الأغاني، ومنها إلى المقدمات الغنائية لعدد كبير من المسلسلات التلفزيونية الشهيرة.

 

* ماذا لو نبدأ من ” المـطـرية ” حيث الولادة والنشأة والبدايات؟

ـ نعم.. ولدت في مدينة اسمها المطرية في محافظة الدقهلية على ضفاف بحيرة المنزلة وهي مدينة صيادين، وقد كان يسكنها أيام طفولتي ما يقرب من ثلاثين ألف صياد. وكانت عائلتي مكونة من أب شاعر أثقلته كثرة العيال فكف عن الشعر، وإخوة كثيرين.. وفي محيط هذه العائلة بدأت رحلة الشعر من خلال جلسات المطارحات الشعرية التي كان يعقدها والدي في ليالي الشتاء الباردة حول النار. وعندما كانت تنتهي محفوظاتي من الأبيات الشعرية كنت أقوم بارتجال أبيات الشعر المناسبة للمطارحة فتجوز على الوالد، وهذا يعني أنها كانت موزونة ومقفاة، وقد ساعدني على الاندماج في هذه الأجواء الشعرية قراءاتي الشعرية في المدرسة وفي مكتبة البيت.

والمطرية قريبة من منطقة القنال حيث كان قد تفجر الكفاح المسلح ضد الإنجليز، وكانت أول قصيدة أكتبها مرثية لشهيد صغير اسمه نبيل منصور استشهد في احدى هجمات الفدائيين على معسكرات الجيش الإنجليزي سنة 1951، وعندها شعرت بدرجة من الاختناق والرغبة في البوح والتواصل مع هذا الشهيد الصغير خاصة أنه كان في نفس سني، فكتبت أول قصيدة كاملة في حياتي.

  • هل كانت عامية أم بالفصحى؟ هل تتذكرها؟

ـ كانت فصيحة، وطفولية جدا، وبالتأكيد كانت خطابية أقول في بدايتها:

كنا غزاة وأبطالا صناديدا صرنا لرجع الصدى في الغرب ترديدا

بعد ذلك بدأت أشارك كشاعر صغير في ندوات جماعة الأخوان المسلمين من أشبال الدعاة، فكنت أقول خطبي شعرا، ثم استمرت تجربتي الشعرية في التصاعد.

  • ولكن كيف بدأت التحول نحو الكتابة الشعرية باللهجة العامية المصرية والتي اشتهرت بها بعد ذلك؟

ـ كانت بدايتي كما قلت بالفصحى، ثم حين التفت من حولي لضرورة التعبير عن عالمي وعن حياة الصيادين وحياة البشر من حولي، بدأت العامية تتسلل إلى شعري وكنت عندها في الثالثة عشرة من عمري، ولكنني لم أترك الكتابة بالفصحى بل كان عالمي الشعري خليطا ما بين الفصحى والعامية، إلا أن ما نشر لي كان بالفصحى فقط، وكان أول من نشر أشعاري الشاعر الراحل فوزي العنتيل في مجلة “الرسالة الجديدة” حيث نشر لي بعض المختارات الشعرية وأنا في الرابعة عشرة من عمري، ثم قدمني بعدها الناقد محمد مندور وأنا في السابعة عشرة بحفاوة شديدة في برنامج إذاعي ثقافي كشاعر قادم يمتلك أدواته ومفتوح العيون على الثقافة والشعر العالمي والإنسان بشكل عام، وبعدها بسنوات قليلة قدمني الدكتور عبدالقادر القط في مجلة “الشعر” التي كان يصدرها سعد الدين وهبة، وكنت حتى هذه اللحظة انشر ما اكتبه بالفصحى فقط رغم أنني أكتب النوعين.

  • يبدو أن النشر باللهجة العامية كان يحتاج إلى شجاعة خاصة.. كيف بدأت تلك الخطوة؟

ـ في ذلك الوقت تعرفت على الشاعر صلاح جاهين الذي نشر لي أول قصيدة عامية وكانت بعنوان (ابن بحر) في مجلة (صباح الخير) عبر باب كان يحرره في المجلة تحت عنوان (شاعر جديد يعجبني)، ومن خلال هذا الباب قدم جاهين كل شعراء الجيل الثاني للقصيدة العامية في مصر، ومنهم بالترتيب: فؤاد قاعود، وأنا، وعبدالرحمن الأبنودي، ثم فريدة إلهامي، ومحمود عفيفي وبقية أفراد هذا الجيل. ومن (صباح الخير) إلى بقية الصحف والمجلات والندوات القاهرية بدأت مسيرتي مع القصيدة العامية.

  • .. ونسيت الفصحى؟

ـ لا. لم أنسها وأنا ليس لدي أي حساسية تجاه الفصحى أو العامية ولكن لدي حساسية للتواصل مع الآخر.

 

محامي الشيطان

  • ولكن سبق أن قلت إنك محامي الشيطان نسبة لدفاعك المستميت عن استخدام العامية على حساب الفصحى؟

ـ أنا مع اتساق الإنسان مع نفسه، فنحن نعيش عالمنا باللغة المحكية، واللغة المحكية ليست غريبة عن اللغة العربية الفصحى، فهي مزيج من العاميات النبطية التي كانت موجودة ومن الفصحى الوافدة بالنسبة للعرب المستعربة من خارج منطقة الجزيرة العربية، فنحن نعيش ونمارس حياتنا ونحب ونكره ونحلم باللغة المحكية، وبالتالي أنا من أنصار أن يكتب البشر باللغة التي يعيشون بها ويحلمون بها.. وهذا ليس موقفا ضد الفصحى ولكنه إيمان بأن هذه العاميات المختلفة هي الأشكال المعاصرة للعربية القديمة مع جدلها مع اللغات القاعدة. وأنا من أنصار القول بأن الوحدة اللغوية العربية القادمة لن تتم عبر الفصحاوات المختلفة للبلدان العربية خاصة أن هذه الفصحاوات مختلفة عن بعضها البعض، فمذاق الفصحى الشامية يختلف عن مذاق الفصحى الكويتية أو الخليجية، ومذاق الفصحى المصرية يختلف عن مذاق الفصحى المغربية.. وهكذا نجد أن لكل فصحى مذاقا مختلفا ولذلك لن يتم الحوار بين الفصحاوات بل سيتم بين البشر الذين يمارسون حياتهم اليومية.

  • ولكننا الآن نتكلم عن لغة الشعر.. ألا تعتقد أن لغة الشعر تختلف دائما عن لغة البشر اليومية، أي أن للشعر دائما لغته الخاصة؟

ـ الشعر يستخدم لغة خاصة مستمدة من باطن اللغة اليومية.. وبالتأكيد فإن الشاعر يحتاج دائما إلى لغة مختلفة عن لغة الآخرين، ومن المتيقن أن فصحى أحمد شوقي تختلف عن الفصحى الصحفية التي كانت مستخدمة آنذاك، بل لعل فصحى شعره مختلفة عن الفصحى التي كتب بها نثرياته.

  • .. وحتى امرؤ القيس كانت يكتب شعره بلغة تختلف عن اللغة التي كان قومه يتحدثون بها في حياتهم اليومية؟

ـ لا.. أنا اعتقد ان القدامى كانوا يكتبون شعرهم باللغة التي كانوا يتحدثون بها.

  • إذن.. ما الذين ميزهم كشعراء لهم لغتهم الخاصة بالضرورة؟

ـ لقد كانت لهم رؤى خاصة داخل هذه اللغة.. فإذا نظرت إلى اللغة العباسية مثلا وأعني بها اللغة المتعينة في أعمال نثرية مثل المقامات مثلا، وإلى لغة شعراء ذلك العصر ستجدين أن مذاق اللغة الشعرية مختلف عن مذاق لغة النثر. والشعر لأنه يتعامل مع جوهر اللغة بالفعل ويفجر كيمياء جديدة تختلف عن النسيج اللغوي داخل العمل النثري المكتوب بنفس اللغة.

البشر صناع اللغة

  • هل لهذه الرؤية للعامية والفصحى علاقة باستخدامك تعبير “العربية المصرية الحديثة” مثلا وأنت بصدد الحديث عن العامية المصرية؟

ـ نعم.. أصبحت اخيرا أفضل استخدام هذا التعبير لأن هذا هو الشكل الذي يتحدث به المصريون اللغة العربية، وهم يطورونه كل يوم في حياتهم اليومية.

  • لكن ألا ترى أن هناك مفارقة بسيطة عندما تدعو للكتابة الشعرية بالعامية أو العربية المصرية باعتبار أنها لغتنا اليومية مثلا بينما نحن نكتب كل ما نكتبه من دراسات ومقالات ومقابلات بالعربية الفصيحة.. بل إننا نجري حوارنا في هذه اللحظة بالعربية الفصيحة دون أن نشعر أنها لغة غريبة عن حياتنا اليومية؟

ـ لا… المسألة مختلفة، وسنجد الكثير من الاختلافات، فنحن الآن لا نستخدم ونحن نتحدث المثنى أو نون النسوة، كما أننا لا ننون نهايات الحروف، بالإضافة إلى أن معظم جملنا جمل اسمية والجملة الفعلية منفية إلى حد كبير إلا إذا كانت معطوفة إلى جملة سابقة عليها.

  • ولكن ألا ترى العاميات الآن أصبحت تقترب من الفصحى بشكل كبير في ظل استفادتها من ثورة الاتصالات وانتشار الفضائيات التلفزيونية التي قربت بين هذه العاميات؟ ألا تعتقد أننا نقترب من استخدام عامية موحدة قريبة من الفصحى؟

ـ أنا من أنصار القول بأن البشر هم صناع اللغة، وأن اللغة كائن حي يتغير من يوم لآخر. ومنذ أن خرج العرب من البادية إلى الحضارة كانت الأسر العربية ترسل أبناءها للبادية لتحسين لغتهم والمحافظة عليها صافية نقية. ولكن هذا لم ينف دخول الكثير من الألفاظ الفارسية والرومية وغيرها للغة العربية. فلا ينبغي علينا أن نقف عند لحظة تاريخية لأي لغة بل علينا أن نعيش هذه اللغة وأن نطورها وأن نعيش عالمنا بها، وما دمنا نعيش عالمنا بها لابد أن نكتب بها أيضا.

  • الشاعر أكثر قدرة من غيره على التعامل مع اللغة بجرأة شديدة؟

ـ الشاعر هو الذي يؤسس إلى حد كبير للغة شعبه بالتعلم من شعبه. وهذا يحدث في كل الشعوب الحية. ففي قاموس لاروس مثلا نجد بجانب بعض الكلمات كلمة (poetic)، وهذا يعني أن هذه الكلمة تفجرت بالشعر، واللغة الإيطالية تكلمها الشعب الإيطالي قبل دانتي لكن دانتي هو الذي أسس لقدرات هذه اللغة وفجرها، ولذلك يقال إن دانتي هو الذي صنع اللغة رغم أنه لم يصنعها ولكنه كثف وقعد وفجر مكنون اللغة التي كان يتحدث بها الشعب الإيطالي في حينه.

رفض القومية

  • هل لحماسك للعاميات أو العربيات المختلفة في كل قطر، وفقا لتعبيرك، علاقة برفضك لفكرة القومية وتجلياتها المختلفة؟

ـ لا.. لا.. ليست هناك علاقة بين هذا وذاك. أنا منذ صباي المبكر لم أكن من أنصار فكرة الوحدة العربية تحت شعار القومية العربية. كنت دائما أرى أن هذه دعاوى حكام وليست دعاوى شعوب، فالشعوب العربية المختلفة مصالحها مختلفة، ومصيرها مختلف وتوحدها في إطار مصالحها ضرورة. وكما كان ماركس يقول مثلا إن البرجوازية تتعلم القومية في السوق، أي أن القومية شعار رفعته البرجوازيات في حينه لتتجاوز حدود الأسواق الإقطاعية المحدودة. ويقينا فإن المشترك بين الشعوب العربية بالأساس هو المصالح العربية والتي هي مناط الوحدة بالفعل وليست سيادة اللغة، فهناك شعوب كونت وحدتها رغم اختلاف لغاتها مثل سويسرا.

  • من الغريب أن رفضك للقومية تبلور أيام المد القومي الصاخب في الوطن العربي، فهل كان لهذا الرفض علاقة بدخولك السجن في تلك الأيام؟

ـ كانت المجموعة الأولى من شعراء العامية المصرية مثل فؤاد حداد وصلاح جاهين وقبلهما بيرم التونسي وغيرهم شعراء كبارا أنتجوا شعرا عظيما ولكنهم كانوا على هامش الحياة الثقافية وكانوا يوضعون في العادة في باب الأدب الشعبي أو الزجل، أما المجموعة الثانية فهي التي بدأت تعطي للحركة الشعرية العامية حضورها في الساحة، ولذلك جوبه دخولنا كموجة ثانية في ساحة الأدب بدعاوى معارضة واتهامات كثيرة خاصة أننا كنا نعيش في عز فكرة الوحدة في إطار القومية بتحقق الوحدة المصرية ـ السورية، وكنا نواجه في الندوات التي تعقد آنذاك من قبل كثير من اللاجئين السياسيين العرب في القاهرة وخاصة اللاجئين السوريين والعراقيين الذين كانوا يهاجموننا على أننا شعوبيون ودعاة للانقسام العربي ولسنا دعاة وحدة عربية، وكنا نرد عليهم ببساطة شديدة أن أهم دعاة القومية والوحدة العربية وهو الرئيس جمال عبدالناصر كان يخطب بالعامية المصرية، وأن خطابته بها لا تنفي توجهه الوحدوي، وكنا نقول أيضا إن كثيرا من الشعوبيين العرب المحدثين آنذاك مثل (القوميين السوريين) مثلا كانوا يكتبون بالفصحى، وأن الارتباط بين الفصحى والعروبية ليس ضرورة، وأن اللغة في النهاية أداة تحمل فكرا.

  • كان السؤال حول علاقة فكرك الرافض للقومية بدخولك السجن، ويبدو أنك تريد تجنب الحديث المباشر عن هذه الحادثة؟

ـ لا.. لقد كنا مجموعة من الشباب ذوي التوجهات اليسارية والرؤى المختلفة مع رؤى السلطة رأوا أن عبدالناصر زعيم وطني وعظيم، ولكن ليس من حق أحد احتكار حق الاجتهاد في سبيل الوطن فالاجتهاد حق للجميع. لقد كان هذا حلما ديمقراطيا في جزء منه، وحلم أن تخلق المؤسسات المدنية التعبير السياسي والاجتماعي عنها كضرورة وجود أحزاب تعبر عن الطبقات المختلفة ومنها الطبقة العاملة والفلاحون وبسطاء الناس والتي كنا نرى أن الفكر الاشتراكي هو التعبير الحقيقي عنها مع دولة شمولية ترى أنها هي وحدها من يملك حق الاجتهاد والتفكير للشعب، فلم نكن ضد عبدالناصر ولكننا ضد فكره الشمولي واحتكاره لحق الاجتهاد. وعندما حلت التنظيمات اليسارية نفسها تمهيدا للدخول في الاتحاد الاشتراكي أعلنا كمجموعة صغيرة رفضنا لفكرة الحل وقلنا بضرورة أن يكون للطبقات الشعبية تنظيماتها الشعبية التي لا ينبغي أن تذوب في الاتحاد الاشتراكي ومن هنا كان الاعتقال.

  • ألا يقترب رفضك للقومية كأساس للوحدة العربية وتفضيلك بدلا منها فكرة المصالح المشتركة من فكرة من ينادي بالشرق أوسطية مع ما يتيحه هذا الطرح من طريق لدخول إسرائيل في منظومة الدول العربية؟

ـ ولكن إسرائيل حتى الآن لا تعتبر جزءا من الشرق الأوسط برغم وجودها القوي فيه، فهي دولة مصنوعة ومحاطة بأعداء بينها وبينهم صراع استراتيجي، إما أن تكون وإما أن يكونوا، بينما الشعوب العربية تجمعها مصالح مشتركة، وهذه المصالح تجمعنا أيضا مع شعوب أخرى غير عربية تعيش معنا منذ زمن طويل مثل الفارسيين والأكراد وغيرهما، لكن إسرائيل لم ولن تصبح جزءا من الشرق الأوسط لأنها دولة مبنية على أساس قهر شعب موجود بالفعل، وتشبه إلى حد كبير الامارات الصليبية التي كانت موجودة، أو حكومات البيض التي كانت تحكم جنوب إفريقيا، فكلها مبنية على نفي عرق آخر لتحل محله، بالتالي فالفكرة مختلفة كثيرا.

الموت طريق الشرف

  • بالمناسبة.. لقد قلت قبل ثلاثين عاما تقريبا إن الطريق إلى الشرف هو الموت.. والآن ونحن نعيش أجواء انتفاضة الأقصى، هل تعتقد أن المقولة مازالت حية بعد تعرضها لاختبار الزمن؟

ـ أنا اعتقد أن اعمار ومصائر الشعوب أطول من ذلك بكثير. لقد ظل البيض يحتلون جنوب إفريقيا عدة قرون، في النهاية جاء مانديلا محققا انتصارا شعبيا تاريخيا للحق الإفريقي في جنوب افريقيا.

  • أنت إذن مازلت تنادي بالموت طريقا إلى الشرف العربي في فلسطين؟

ـ إلى حد كبير، وما يحدث الآن في انتفاضة الأقصى إعلان من أطفال فلسطين بأن ارادتهم لم تنكسر ورغبتهم في الحصول على وطنهم الحر لم تمت، وهم عندما يموتون بالسلاح الإسرائيلي وهم ممسكون بالحجر يعلنون رفضهم للمصير الذي تخططه الدول الكبرى مع الإسرائيليين.ولعلي هنا أتذكر قصيدة جميلة للشاعر محمد عفيفي مطر وهي من بداياته بعنوان (تراجيديا الملكة واللوردات وآخرون) ويصور فيها سيرة ذلك المتمرد الذي لم يجد وسيلة لإعلان رفضه للملكة وحاشيتها إلا بالانتحار أمام موكب هذه الملكة.

لوركا العرب

  • في بداياتك أطلق عليك بعض النقاد لقب (لوركا العرب)، نسبة لنضالية لوركا الشعرية، لكن يبدو أنك تخليت عن هذا اللقب.. أم أنه هو الذي تخلى عنك؟

ـ مع صدور ديواني الأول “صياد وجنية” حظيت بنوع من الحفاوة النقدية التي ربما كانت مبالغة إلى حد ما ومن صور هذه الحفاوة عقد المقارنات بيني وبين بعض الشعراء العالميين مثل إيلوار ولوركا.

  • ربما كان ذلك بتوجيه الهوى السياسي؟

ـ ربما.. بالاضافة إلى أن شعرنا في ذلك الوقت كان خروجا فادحا على عمود الشعر العربي ورؤاه وطريقة صياغته، فقد كنا نفكر بالصورة في وقت كان التفكير بالصورة مازال جديدا على الشعر العربي ولم يكن قد تأسس بعد، ولذلك كان من اللافت للنظر أن يوجد شعر عامي متجاوزا تقاليد شعر العامية المصرية الممثل آنذاك بالزجل، ومتجاوزا في ذات الوقت الشعر الفصيح الذي كان سائدا آنذاك. ولكني كنت أشعر بحزن شديد لأن أهل مدينتي الصغيرة لم يسمعوا بشعري بعد رغم أنني كنت أكتب بالعامية، ومن هنا فكرت بالعودة لتقاليد المشافهة اللصيقة بالشعر ومخاطبة أذن المتلقي في وطن تغمره الأمية. فكان مهما أن نتجاوز التدوين المكتوب نحو الاتصال الصوتي عبر المشافهة.

  • ولعل هذا ما دفعك نحو الأغنية كأداة سريعة ومضمونة لإيصال شعرك للمتلقي الأمي؟

ـ في البداية بدأنا ننشر شعرنا عبر الرحيل في القرى المختلفة، أو نشر الدواوين الإذاعية، وهي دواوين نكتبها بهدف إلقائها في الإذاعة، ومن هذه الدواوين ديوان كتبته بالاشتراك مع عبدالرحمن الأبنودي بعنوان “بعد التحية والسلام”، وقد أصدر الأبنودي الجزء الخاص به بعد ذلك في ديوان مطبوع، ولكنني لم أفعل ذلك لأنني كنت أستهدف مخاطبة الأذن ولم أكن قد حللت مسألة العلاقة بين مخاطبة الأذن والتدوين المقروء بعد. وقد ساهمت الدواوين الإذاعية في تغيير أدواتي نحو المزيد من التبسيط الذي أوصلني للأغنية.

  • هل هناك فرق بين القصيدة التي تكتب كقصيدة وتلك التي تكتب لتكون أغنية؟

ـ بالتأكيد هناك فرق.. ففي القصيدة الخالصة يكون الهم الأساسي فيها هو أن أكتب، أما الأغنية فهمها الأساسي الإجابة على سؤال: لمن أكتب.

  • لكن كثيرا من قصائدك التي كتبت كقصائد خالصة تحولت إلى أغنيات بعد ذلك؟

ـ نعم كثيرا جدا.. ففي البداية كان النهج السائد لدى الملحنين أن القصيدة تختلف عن الأغنية، لكن مع ظهور ملحنين جدد أصبح لديهم طموح لتلحين الشعر المكتوب كشعر، وهذا الطموح موجود لدى زياد الرحباني وعمار الشريعي وعمر خيرت. وبالنسبة لي هناك حرص شديد على الجوهر الشعري فيما أكتب من أغاني، لأن دوري الحقيقي ليس مؤلف أغنية ولكنني شاعر يحاول أن ينشر شعره عبر كل الوسائل المتاحة.

  • حتى لو كانت الوسائل هي فوازير تلفزيونية للفنانة شريهان؟

ـ نعم.

  • أليس هناك تناقض بين “لوركا العربي” الذي ذاق مرارة المعتقل وهو يدافع عن قناعاته وكتب قصائده مرارة هناك، وبين “كاتب فوازير شريهان”؟

ـ يقول أصحاب الأنثروبولوجي إن كل ما تصنعه قبائل البوشمن البدائية هو فن، لأن الفن شديد الالتصاق بالحياة، وأنا أحلم أن يكون كل ما أصنعه فنا بمعنى أن ينقل جزءا من ذاتي ومن رؤاي ومن شهادتي للآخرين.

  • ألم تجد غضاضة في كتابة الفوازير؟ ألم تواجه بهجوم؟

ـ لم أجد غضاضة، ولكني واجهت الكثير من الهجوم على مستويات عدة، فواجهت هجوما من رفاق قدامى رأوا في تعاملي مع تلفزيونات وإذاعات الحكومات خيانة، وواجهت هجوما آخر من شعراء أو متلقين يرون أن كل بساطة إنما هي تفاهة وأن الفن الحقيقي هو الفن المعقد أو العميق، وواجهت هجوما ممن مازالوا يرون أن الثقافة ينبغي أن تكون على هامش الحياة، وهذه كارثة حقيقية طبعا، فجزء من مأساة عالمنا أن الثقافة هامش من هوامش الحياة وليست جزءا من نسيجها.

الأغنية الجديدة

  • ألهذا السبب أصبحت من أشد المدافعين عن الأغنية الجديدة والتي يحلو للبعض أن يطلق عليها الأغنية الشبابية من منظور انتقادي أو استهجاني؟

ـ لا.. لست من أشد المدافعين عن هذه الأغنية ولكنني أحاول دائما أن أرى الشيء الإيجابي فيما تحقق بالفعل، ففي موجة الأغاني الشبابية هناك شيء إيجابي أساسي يتمثل في وجود أجيال جديدة وصلت للساحة وهي تحتاج للتعبير عن نفسها، ولإبداع فنونها الخاصة بها. وأنا متأكد أن هناك الكثير من الاجتهادات الناجحة والاجتهادات الفاشلة بين هذه الاجتهادات الغنائية الشبابية، والاجتهادات الناجحة مبنية على استيعاب وهضم ومعرفة لكل الاتجاهات السابقة، أما الاجتهادات المفارقة فكأنها تبدأ عالمها من جديد، فلا تدرك التواصل في مسار الحياة نفسه. ولعل من أبرز الأمثلة على الاجتهادات الناجحة التي تؤسس عملها على أرض صلبة ما يفعله زياد الرحباني، فزياد مختلف بالكامل عن عاصي ومنصور الرحباني لكنه على صعيد ما مؤسس على قاعدة من الرحبانية القديمة، فهو بالتالي استمرار وتواصل للعطاء الرحباني بأشكال مختلفة. والشاعر المحدث إذا ما مارس القطيعة مع موروث أمته يسبح في الفراغ ولا يصل إلى الآخرين ولا يحسن التعبير عن ذاته. فالشاعر الحقيقي هو من يعتبر موروث البشرية هو موروثه الذي ينبغي أن يضيف إليه.

  • تحدثت قبل قليل عن تجربة زياد الرحباني كتجربة شبابية إيجابية.. ألم تلفتك تجارب عربية أخرى على هذا الصعيد؟

ـ أنا أتابع بعض التجارب العربية بقدر الإمكان.. وبقدر ما يسمح به التشرذم العربي الحالي. وشخصيا أنا على علاقة مباشرة بما يفعله زياد الرحباني وما تفعله فرقة صابرين الفلسطينية وببعض التجارب في الخليج وفي تونس.

  • يتهم البعض الشعر العامي في الخليج أو ما يطلق عليه الشعر النبطي بالتقليدية التي تبعده عن قضايا الراهن الخليجي أو العربي بعكس الشعر العامي المصري.. هل تعتقد بذلك من خلال متابعتك التجارب الشعرية الخليجية العامية الحديثة؟

ـ قد يبدو هذا صحيحا، ولكنني اعتقد أن هناك موجات جديدة خارجة من الشعر النبطي لكنها مختلفة عن المسار التقليدي، وأنا في السنوات الأخيرة تواصلت مع كثير من الشعراء الخليجيين عبر حضوري لمهرجانات الجنادرية في المملكة العربية السعودية، فاكتشفت أن هناك موجة صاعدة من الشعراء الخليجيين الذين لا يسبحون في المجرى العام للشعر النبطي، بل هم يتعلمون منه مع انفتاحهم على الشعر في كل المنطقة العربية وربما في العالم كله، ولذلك هم يبدعون شعرا جديدا مختلف المذاق والرؤى ويعبر عن هم إنساني أبعد من القصيد النبطي التقليدي.

  • أيهما بحاجة إلى الآخر أكثر الشعر أم الأغنية؟

ـ هو احتياج مشترك، فالشاعر الذي يريد أن يشيع رؤاه وأشعاره في قلوب ووجدانات الآخرين يحتاج إلى الأغنية ضمن وسائط أخرى كثيرة، كما أن الأغنية تحتاج إلى الشعر الجميل للخروج من ترديها العاطفي ومأزقها الأدبي. وكل شعوب العالم تغني أشعار شعرائها، وأنا لا أرى هذا الفصل التعسفي بين الفنون خاصة أن الفنون بدأت مع بداية البشرية مندغمة ومندمجة ثم اختلفت بعد ذلك.

مقدمات المسلسلات

  • اشتهر سيد حجاب بالذات ككاتب للمقدمات الغنائية للمسلسلات التلفزيونية، وهي فن شعري جديد تقريبا.. كيف بدأت بهذه التجربة؟

ـ لم أبدا بها.. البداية كانت في الستينيات مع عبدالرحمن الأبنودي وإبراهيم رجب في مسلسلات نور الدمرداش القديمة، لكنني أظن أن التأسيس الحقيقي لهذا النمط من الغناء تم على يد عمار الشريعي كملحن ويدي كشاعر، وفي معظم الأحيان كان معنا علي الحجار كمغن. ومقدمة المسلسل الغنائية أغنية ولكن بمفهوم مختلف للغناء، فهي أغنية ذات طبيعة درامية خاصة حيث تحتضن الدراما وتتمثلها جيدا، وتحاول أن تقول رؤية فلسفية شاملة لموضوع الدراما، وقد حدث كثيرا لبعض هذه المقدمات أنها شاعت كثيرا بعد ذلك كأغاني مثل أغاني مسلسلات (ليالي الحلمية) و”أديب” و”أرابيسك”.. وغيرها.

  • ألا ترى في أغاني المسلسلات التلفزيونية عودة جميلة لأجواء سيد درويش الذي حول الغناء من فعل نخبوي إلى فعل شعبي يستطيع أن يقوم بممارسته الجميع بغض النظر عن حجم مواهبهم الصوتية؟

ـ سيد درويش جزء من تكويني وتكوين الموسيقيين الذين شاركت معهم في كثير من الأعمال، والعبقرية الحقيقية عند سيد درويش تكمن في أنه أخرج الغناء من مجال الطرب والزخرف إلى مجال التعبير وجوهر التعبير الذي يجعل الغناء قريبا من الصوت الإنساني مهما كان. لقد تعلم الجميع من هذا النهج وليس نحن فقط، حتى الأغاني السرية التي سادت مصر فترة طويلة تعلمت من روح التعبير عند سيد درويش، بل إن ما يسمى الآن بأغاني الميكروباص في مصر التي تتميز بالبوح الغنائي بدلا من الزخرف الغنائي تعلمت من سيد درويش. لقد لمس سيد درويش جوهر الموسيقى في هذا الكشف الذي قام به، فالموسيقى عنده تعبير بالنغم عن تجارب شعورية إنسانية وقد كرس ذلك انتماؤه للطبقات الشعبية الناهضة آنذاك.

 

(مجلة العربي 1 يونيو 2001)

 

عناوين أخرى نشرت في اللقاء:

  • الشاعر المحدث إذا مارس القطيعة مع موروث أمته فقد التعبير عن ذاته
  • ليس من حق أحد احتكار الاجتهاد في سبيل الوطن
  • الوحدة العربية لن تتم عبر “الفصحاوات” المختلفة للبلدان العربية
  • جمال عبدالناصر كان يخطب بالعامية وهو أهم دعاة القومية العربية
  • الأغنية بحاجة إلى الشعر الجميل للخروج من ترديها العاطفي ومأزقها الأدبي
  • جانب من مأساتنا أن الثقافة هامش من هوامش الحياة وليست جزءا من نسيجها

 

عن Saadiah

شاهد أيضاً

لميعة عباس عمارة: لا يمكن أن تصل المرأة إلى العبقرية لأنها لا تملك أنانية الرجل‏

2 يناير 2002/ سعدية مفرح: “أنا الغريبة في أهلي وفي وطني”، هكذا افتتحت الشاعرة لميعة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *