سعدية مفرح في ديوانها الأول: “آخر الحالمين كان”
الهال في ضفائرها وعبق الصحراء في خلايا تمردها الأنثوي
بقلم: عالية شعيب
تخرج هذه المرأة من قلب الصحراء، وتقول: أنا بدوية مختلفة.
مملؤة جيوب ثوبها بالرمال العطر، تشبه شعرها بعبق تزاوج الغروب بالمساء، وتأتي محملة بوهج الصحراء حيث تفتح حواراتها مع الشمس وقت الظهيرة الخاص، تتلو علينا القصة من آخرها وليس من اولها توقعت أن نعرف عن الألق في عيون البدو، وعن دواخلهم الناصعة، وعن القمر الساكن قلوبهم، توقعت أن نعرف عن الهال في أحاديهم، وعن مواقد فرحهم، وعن المسك في ظفائر نسائهم لا يبوح. تحدثنا سعدية مفرح في ديوانها الأول: “آخر الحالمين كان” الصادر يونيو (حزيران) 90 في الكويت، عن سكاكين القبيلة، وعن الحب الأول، وعن همس سجادة الصلاة لها كلما انحنت، عن البارود المعبأ في مسامات الجدران الأسمنتية، وعن النار أسفل جلود العمال المحروقة بالقهر، تحدثنا عن أحلام بدوية في عالم تحضر، وعن التناقض: الأسود والأبيض، النقاء والزيف. تحدثنا عن حلمها بالاختلاف، وعن الأشواك التي انغرزت في عينيها وقدميها كلما اقتربت من ذلك الحلم الذي يبارك تمردها الأنثوي.
تطلع من القصائد لقارئ هذا الديوان أطياف امرأة تمتلك وعياً متوهجاً، لا يفوتها في هذه الحياة معنى غرزة دبوس، امرأة تفتح الإدراج بحواسها، وتطل فيها. تتأمل كيف النملة تنقل الحبة من طرف لطرف، وكيف البرتقالة تتنفس في الصحن، وماذا تقول قطرة القهوة المرة الأولي لفم الأبريق وهي تودعه، وكيف يتلقاها الكوب الئيل.
قصائد مرسومة
يشعر القارئ بقدرة الشاعرة على الاختزال، فهي لا تري مرة ولا اربع بل عشرات المرات، وتخرج لنا بومضة شعرية تختصر كل الدقائق الصغيرة والزخارف الملونة التي رأتها واخترقت وعيها في لحظة زمنية ما، تقول في “هزيمة” (ص11):
من كل هذي الريح
اخترت عاصفة
هزمت لأاسكنها
من كل هذا الكون
اخترت عاطفة
مازلت أهزمها
لتسكنني.
فهي تتعامل مع الأشياء بتعقل، وتتناول ذاتها شريحة فأخرى وتغسلها بنور الإحساس والمخيلة، وتخيط وجودها الكامن بما حولها من ظواهر، وتخبرنا كيف يسير العالم حقا، وليس كما نظن انه يسير.
وتفاجئك وانت تتصفح الديوان صور ترسم بالمخيلة، صورة شعرية يراها القارئ لا يقرأها، هناك صور شعرية في هذا الديوان لا يتعقلها القارئ إلا حين يرسمها في مخيلته وهو يقرأها، محاولا ربطها بمعن كل لفظة على حدة في لوحة كلامية، كتلك التي حاول من خلالها الفنان البلجيكي رينيه ماغريت MAGRITTE كسر قانون الجاذبية، وازدواجية الخارج والداخل، والنهار والليل تقول سعدية في “اسرى” ص 31:
امرأة تعاشر الضياء وتعشق رائحة الأرض والقهوة
لمن
كنت تبرى النهار المبارك هذا،
وتغزله قلعة للضياء ؟
لمن
كنت تغرى الليالي الطويلة
بالحتضار،
وترسمه بركة للبكاء؟
لمن
كنت تجري البكاء الجميل
للاستخارة بين المدى والردي؟
يا..
صدى
لمن
كنت تغني سدى؟
وكما هي الصحراء ممتدة وشاسعة متوهجة بالحنان والبلل الكامن، كذلك هي المرآة التي تضم الكون أسفل عباءتها، وتلتقي المشارق والمغارب عند واد أسفل عنقها. ترى في الرحيل خطيئة كبرى، وفي انفصال حبة الرمل عن الأخرى خطيئة. لا يغريها العالم خارج حدود صحرائها. لا تشعل المساحات الخضراء ولا قمم الجبال الثلجية الالق في رئتيها. مملوءة هي بعشق العبق المتصاعد من الأرض المتخمة بالهال في القهوة، وبالخرز الارزق في أعناق الخيول، والكحل الأسود يغازل الرموش في مداها وجزرها. تقول في: لماذا ؟ ص 43
لماذا يترك الولد الذكي
بلاده
نحو الغواية،
والنوى،
وفنادق الغرباء
والليل الطويل،
ورداءة الطقس المثلج،
والجوى،
ومساحة بوسع القلب
للبوح النبيل؟
اعترافات بدوية
في قصيدة القصائد، ومليكة الديوان، ترمي الشاعرة ثوب التحضر عنها، تقلب مائدة الاحتفاء بالبريق يتصاعد من وهج ذليل تشرع صدرها للنوارس، وترك الغياب يتفتق عن الحضور، والقهوة تنسكب من مساماتها، معلنة أنها عائدة للجذور، وأنها اختارت، .. تقول في “اعترافات امرأة بدوية”.
ص 47
تعذبني
كل التفاصيل التي
لم تغادر مرفأ الذاكرة
فحين تعج بصدري رياح التغير
تفاجئني ضرباتها في جدار التذكر
ترش التصور إثر التصور
لبيت من الشعر
في لون عيني لونه،
تمتد أوتاده ضاربة
في ثنايا الفؤاد
ساخرة
لرائحة لم تزل،
رغم كل عطور التحضر
لاصقة بخلايا ثيابي.
وبالرغم من فرحي بهذه البدوية التي تعلن انتماءها المختلف لذاتها، للأرض، لتعقلها لتراثها، لا يمانها برؤيتها المميزة. بالرغم من اشتعالي وتألقي بصراخ هذه الشاعرة التي خرجت لنا من شق في الأرض المبللة بالزيف والحضارة المتفسخة عن عفن، لتتلو علينا صور البجع النائم في عيون البراءة، والكحل الذي يبكي كبرياءه، واغنيات الطين المبلل بالعرق الصافي بالرغم من كل هذا ، حزنت وأنا أغلق هذا الديوان المضمح بعبق البدو الرائعين، وأنا ارى الشاعرة تلتف بعباءتها، تدير ظهرها لي، ولكن صرخاتها الملونة التي سكبتها مهرجانات تالق وتمرد في كفي، قائلة في قصيدة “قبيلتي” ص 101.
اخونها
في كل ليلة
أعاشر الضياء
لكنني
اضبطها في لحظة الخيانة
راسبة في قاعي
مثل بقايا قهوة المساء
تمد لي لسانها
تضحك من حضارتي المسكوبة المهانة،
جريدة صوت الكويت (لندن) – 15 مايو 1992