الذكرى الأحلى والأكثر ألماً في قلب الأغنية
نوفمبر 2003/ عندما غنت الراحلة ذكرى “وحياتي عندك” الأغنية التي أطلقتها في عالم الشهرة قبل عدة سنوات، قال العارفون بأمر الغناء العربي أن لهذه الفنانة القادمة من الجنوب التونسي دراية موسيقية وموهبة نادرة، وصوت لا يتكرر كثيراِ، والأهم من ذلك أنها تملك ذلك المزاج المراوغ ما بين الفرح اللامبرر والحزن اللامبرر الذي يميز عادة الفنانين الحقيقيين من دون أن يدركوا عنه ولا إلى أين ينتهي بهم في نهاية المطاف.
والنهاية التي اتت سريعة وانهت مسيرة فنية قصيرة، لكنها حافلة ومميزة جدا، جاءت دامية وصاخبة، فبواسطة اكثر من عشرين طلقة نارية اخترقت الجسد الأسمر النحيل انتقلت ذكرى إلى رحمة الله الواسعة، وصارت مجرد “ذكرى” جميلة مرت في مسيرة الغناء العربي وهو في اسوأ مراحله من دون أن تنحدر للسيء فيه، ولا أن تتخلى عن خياراتها الفنية الراقية على رغم كثرة مغريات الشهرة!
هل أقول ذلك لأنني أحبها وأعشق صوتها الذاهل في ملكوت الطرب الأصيل؟
ربما…!
وربما لأنها بتلك النهاية المأساوية والمرشحة لأن تكون منجم الحكايات المسلية والاسرار الغامضة للاهين والمفتشين بين أروقة الحياة الخاصة لأهل الفن عما يشغل فراغاتهم. ربما لأنها بتلك النهاية كرست صورة مأساوية للمرأة العربية الباحثة عن ذاتها بذاتها بقدراتها بمواهبها بصوتها بأنوثتها في مجتمع ذكوري لا يريد أن يعترف بجرائمه التي لا يحاسبه عليها اي قانون ضد النساء!
فعلى رغم أن الجريمة الدامية التي افقدت ساحة الغناء العربي أحد أجمل فرسانه على الاطلاق مازالت في طور اكتشاف ملابساتها الأولية، وعلى رغم أن أولي الأمر مازالوا يحصون عدد الرصاصات الغادرة التي اخترقت جسدها، إلا أن كثيرين سارعوا للإدلاء بتصريحات تقترب في طبيعتها من التبرير للجريمة البشعة والتخفيف من وحشيتها باعتبار أن الجريمة وقعت بسبب الغيرة العمياء، وعلى وقع مفردات مقولة “ومن الحب ما قتل”!
وغداً عندما تتلاشى دهشة الخبر في صيغته الاولى، وتنفرج المفاجأة عن أدق الأسرار وبقايا التفاصيلِ ستتوالى حكايات الذكور، والإناث اللواتي يفكرن بتلك الصيغة الذكورية، لتنهش في سيرة الراحلة ما يمكنها من الاستمرار في غي الظنون غير البرىئة في امرأة اختارت مهنتها الجميلة بمحض ارادتها الحرة، وجودت فيها كما يليق بكل الاختيارات الحرة، متكئة على موهبة أصيلة تمثلت بصوت يأخذ مستمعيه إلى آفاق مليئة بالطرب الخالص، والأداء المخلص بعيدا عما تمتلئ بها فضائيات العرب وإذاعاتهم هذه الأيام من “اختناقات” و”حشرجات” غنائىة ملونة بألوان الفيديو كليب وحركات راقصاته السمجة!
وذكرى التي رحلت إثر خناقة زوجية عادية صباح الجمعة الماضي(28 نوفمبر 2003) بحسب الأنباء الصحفية الأولى قدمت، منذ أن قررت الإقامة الدائمة في القاهرة في مطلع التسعينيات اكثر من ألبوم غنائي لقي كل منها النجاح المدوي نفسه مما جعل نجاحاتها المتوالية وخصوصا في ألبومات “وحياتي عندك” و”الله غالب” و”الأسامي” تعيد الثقة لكثير من أهل صناعة الطرب الاصيل الذين كادوا ينكفئون تحت وطأة الانتشار الساحق لمطربات هز الوسط ومطربي الافيهات والنكت الغنائىة، خاصة أن نجاحات ذكرى في مجال الاغنية الطربية لم تبعدها عن الاجواء الشبابية التي صنع منها مطربو هذه الايام مشجبا لتعليق خيباتهم الغنائىة عليه!
لقد غنت ذكرى ألوانا غنائية عديدة وبلهجات مختلفة مثل التونسية والليبية والمصرية والخليجية. وحين شدت بمقطعها الخاص في أوبريت “الحلم العربي” قبل عدة سنوات إلى جانب من شدوا من المطربين والمطربات العرب في ذلك الأوبريت اتضحت للجميع إمكاناتها الصوتية الخارقة للمستوى الذي تواضع عليه المطربون العرب في نهايات القرن العشرين.
رحلت ذكرى إذن، لتصير الذكرى الأحلى لكن ايضا الذكرى الأكثر ألما وحزنا ودمويا في قلب الاغنية العربية الراهنةِ.
رحلت.. و”الله غالب” على أي حال!