كانت تلك الصورة التي أعرف أن أخي المرافق لها في حجتها تلك هو من التقطها بكاميراه الخاصة تتحداني كلما وقعت عليها عيناي.. وكنت استجيب لذلك التحدي بما يشبه اليقين على تحقيق الحلم، لكن الحلم تبخر وتحول الى غصة صغيرة متكثفة منذ أن أفتى شيخنا الجليل بعدم ضرورة ذلك في ظروف زحام غير مأمون تماما، وانسجاما مع متطلبات وتعليمات رحلة جماعية كرحلتي.. ثم أن صوت ذلك الرجل العابر الذي مر بي مهمهماً بما يشبه النصيحة لأن ننشغل بالعبادة بدلا من الانشغال بالتصوير ساهم في خفوت حدة تلك الرغبة المتحدية وتحويلها الى سنوات لاحقة وزيارات مقبلة أن شاء الله بدأت أحلم بها قبل أن أتم زيارتي الراهنة.
كان لي في صلاتي الظهر والعصر التي أديناها جمعا وقصرا واستمعنا خلالهما الى خطبة الجمعة من مسجد نمرة البعيد من خلال مكبرات الصوت وسماعات الإذاعة بعض التعويض الخفي، فهنا.. في هذا المكان تحديدا، وفي مثل هذا اليوم بالذات، نزلت تلك الآية القرآنية العظيمة والتي تلاها نبينا صلى الله عليه وسلم لتصير الختام الأمثل للرسالة النهائية: “الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً”.. وها أنذا أكرر تلاوة تلك الآية في صلاتي ودعائي أيضا راضية مرضية بهذا الدين العظيم؛ ربِ تقبل حجتي وأتمها وأرض بها عنا كما أكملت لنا ديننا وأتممت علينا نعمتك ورضيت لنا الإسلام دينا.. اللهم آمين.
تميل شمس عرفة المزدهية نحو الغرب والغروب، فنلملم أطراف رحلتنا استعدادا للمغادرة قبيل مغيب الشمس النهائي إفاضةً الى مزدلفة.. ومزدلفة كلها موقف أيضا.
الطريق قصير الى مزدلفة في حسابات التوقيت العادي، لكنه طويل جدا بالنسبة للحجاج الذين يقطعونه عبر الحافلات والسيارات التي لا تكاد تمشي من شدة الزحام.. ومع هذا لم أشعر بأي فراغ في هذا الوقت الطويل.. كانت الأغلبية ممن معي من الحجاج قد استغلوا الوقت في قراءة القرآن وسط أصوات التلبية المهيبة الآتية من كل جانب.. واستغليته معهم في القراءة أحيانا، وفي مراقبة ما وراء نافذة الحافلة أحيانا أخرى.. ولم تنته ملاحظاتي عند حد. كنت ألاحظ كل شيء بدءا مما هو مكتوب على جوانب بعض الحافلات وانتهاء بنوعية ملابس النساء المختلفة، في ظل توحد ملابس الإحرام الرجالية تقريبا، مرورا بتلويحات لم أتورع عن تبادلاها مع حجاج أتوا من تلك البلاد البعيدة بابتسامات لم ينل منها التعب ولا الزحام.
عندما وصلنا الى أرض مزدلفة أخيرا كانت الساعة تشير الى العاشرة مساء.. أي أننا قضينا في الحافلة التي لا تكاد تسير ساعات طوال أكلنا وشربنا وقرأنا القرآن وضحكنا وتحادثنا فيها وراقبنا الطريق وشكى بعضنا لبعضنا وانفتقت بعض الجروح من بين الحكايات العابرة التي قد يتبادلها الغرباء على أي طريق، وانثالت الذكريات أيضا ثم حبسنا بعض اللقطات التي توسمنا أنها ستكون زادا لذكريات مقبلة في بعض الصور الفوتوغرافية.. ومر الوقت.
كان أول ما فعلناه عندما ترجلنا هو أداء صلاتي المغرب والعشاء جمعا وتقصيرا وتأخيرا. ثم جاءت اللحظة التي كنت أنتظرها فعلًا.. التقاط الجمرات.
أمسكت بكيسي الأسود الصغير الذي كنت قد أعددته لأجمع فيه جمراتي بيدي وانطلقت الى المكان الذي أشار شيخنا المرافق لنا في الرحلة ليفيتينا في أمور حجنا اليه. كان الهواء العليل قد أعاد لي بعض نشاطي وضخ في جسدي الخامل من أثر البقاء في سكون الحافلة طويلا حماسة جديدة فاضت عن حدود البحث عن الحصى لتصبح ابتسامات وضحكات وتعليقات طريفة تبادلتها مع من يرافقني من النساء.. وكجواهرجي عتيق ومتمرس في التقاط احجاره الكريمة ليصنع منها مصوغاته النفيسة بدأت بالتقاط أحجاري الصغيرة.. لم أهتم بتعليقات من معي الساخرة على طريقتي الانتقائية الدقيقة في اختيار حصوات متساويات في الأحجام والأشكال تقريبا ثم تنظيفها بمحارم ورقية مبللة ومعقمة قبل وضعها في الكيس الصغير الأنيق.. أعرف مصير ذلك الحصى الذي اجتهدت في عده أكثر من مرة، لكنني أحببت أن أنتقيه وأحتفي به بهذا الشكل ما دام سيبقى معي بعضا من الوقت حتى أرميه نحو مصيره المحتوم لاحقا وتدريجيا.
بقيت طريقتي في الخاصة في انتقاء جمراتي حديثا طريفا لنساء الرحلة على مدى الأيام اللاحقة، ولم يضايقني الأمر بل كنت أبالغ في التدليل عليه كلما حانت الفرصة باستخراج الحصوات من الكيس و”تدليلها” وإعادة عدها أيضا.
كانت مزدلفة مكان الليل وحده، فلم ارها في وضح النهار، ولم يبق منها في تصوري عن المكان سوى أرضها المليئة بالحصى.. حتى لكأنها تنبت الحصى من أعماقها ليجد الحجاج ما يكفيهم منه دائما، مع أن بعض المشاهد التي تتجمع فيها تلك الجمرات الصيرة على الأرض تشير الى عملية تدوير واضحة لملأ المكان بما غادره .. فالحصى في مزدلفة لن ينتهي ولكنه لا يخلق من العدم.
(جريدة الرياض / 6 ديسمبر 2012)