ليسوا أصدقاءك

24 أغسطس 2017/

الطريق موحشة والزاد قليل. وكلما مضى بك العمر إلى الأمام، زادت الطريق وحشةً وقل الزاد، لكن هذا لا يعني أنك ستموت تحت وطأة الخوف والجوع لحسن الحظ، فمع كل خطوةٍ تخطوها على سبيل العمر تكتشف أنك لم تعد بحاجة لناس كثيرين، ولا لزادٍ كثير.
ستمضي بأقل القليل، وستعرف أن الدنيا ما زالت بخير. عليك فقط أن تمضي بما يناسبك من ذلك القليل. تخفّف ممن حولك وما حولك، وابق على الجوهر من الأصدقاء، وإن كان واحداً وحسب.
لن تحتاج أكثر من صديق واحدٍ أحيانا، لتعرف قيمة الصداقة الحقيقية، وتكتشف جوهرها المضيء في قاع روحك.
لن يضيرك أبداً أن ينفضّ من حولك الجمع الذي كنت تظن أنهم الأصدقاء في لحظة واحدة! بل حاول أن تستدرج تلك اللحظة لتجيء مبكرا، فكلما ضللت الطريق وتأخرت في الوصول، وتكاثر حولك الناس الذين تظن أنهم الأصدقاء، صعب عليك أن تتحكّم في مشاعرك تجاههم، واختلطت عليك العواطف، بألوانها وأشكالها البراقة، في سوق الصداقة.
أما إن كنت قوي الجنان، واثقا بذاتك، فاقدم ولا تتردّد.
لا تسرف في هدر مشاعرك على من قرّرت، أنت وحدك، أنهم أحبابك، فقط لأنهم ابتسموا في وجهك ذات مساء ملبد بغيوم الشجن والغياب، وربتوا على كتفك لحظة انكسارك التي صادف أنهم كانوا شهودها المحايدين.
سيأتي موقف عابر لاحق تكتشف، من خلاله، أنك في حياتهم مجرد شخص عابر، وأن المصادفة وحدها التي جمعت بين انكسارك ووحدتهم، وجعلتك تراهم الأصدقاء، وما هم كذلك.
تذكّر أنهم ليسوا مسؤولين عن اللبس الذي وقعت فيه، ولن يفيدك ما بذلت لأجلهم، في تكريس صداقتهم المفتعلة. قف بحزم، ولا تكمل طريق اللبس، مهما كان مغريا. لوح لهم بابتسامة ممتنة، وأدر وجهك وامض، شرط ألا تندم ولا تتحسر على ما فات.
ليسوا أصدقاءك وإن ادّعوا ذلك، وإن حاولوا البرهنة على ادعائهم بشتى الطرق، وإن تفانوا في إعلان صداقتهم لك أمام العالمين، بعد أن انكشف المستور، ورأيتهم بعينيك وقد غرقوا في رمال الخيانة المتحرّكة. لا تمد لهم يدك، لتخرجهم من أمواج الرمال، ما داموا قد انحازوا لخصومك في اللحظة الحاسمة، وهم يعرفون كم هو مؤذ لك ذلك الانحياز، وكم هي جارحةٌ لقلبك خطواتهم على الطريق المؤدية إلى قلب الخصم.
لا تلغهم من قائمة الأصدقاء، حتى لا تتضاعف أحزانك على من فقدت منهم، بل قرّر أنهم ليسوا أصدقاءك منذ البداية، وافرح لأنك أزلت اللبس أخيرا، وتخففت تلك القائمة مما يرهق خفّتها، ويكدّر بريقها الأصيل.
ليسوا أصدقاءك، وإن تفننوا في الادعاء، فالصديق لا يحتاج ادعاء الصداقة، والصداقة عصية على كل إثبات مفتعل، وسيكون من السهل جدا أن تفرزهم، وتزيحهم على جانبي الطريق، وأن تمضي بثقة الأبرياء إلى الأمام، من دون أن تتلفت.
تذكّر، وأنت واقعٌ تحت تأثير نوبةٍ من التردّد والضعف، أنهم قد اختاروك في السر واختاروا خصومك في العلن. وأنهم ساوموك بطريقةٍ غير مباشرة على حبهم لك، وأنهم تمننوا عليك بما أسموه صداقتهم، وأنهم عندما اكتشفت خداعهم، قاوموا ببجاحة الأدعياء وبوقاحة المدعين. لم ينكسروا ولم تحتدم تحت جلودهم ثورات الندم.. ولم يموتوا.
ليسوا أصدقاءك، وإن حاولت إقناع نفسك بذلك طويلاً، لقلة الزاد ووحشة الطريق، ففي موقفٍ واحدٍ، يسقط القناع، وتنهار القناعة، لتظهر الحقيقة التي تبدو بشعةً للوهلة الأولى. تمهل. ابتعد قليلا عنها. تراجع خطوتين. أغمض عينيك وافتحهما عليها.. وانظر بدقة؛ ستراها أجمل ما تكون. احمد الله على نعمة الصداقة القليلة الحانية القوية.. وأكمل الطريق الموحش بزادك القليل.

(العربي الجديد)

عن Saadiah

شاهد أيضاً

لوحة للفنان أسعد عرابي

هل سأنجو هذه المرّة أيضاً؟

سعدية مفرح/ تنقذني الكتابة، ولو مؤقتاً، من الغرق في لجة الكآبة ومجاهيل الاكتئاب. فمنذ أن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *