لو كنت أبحث عن صورة تعبر عني في مقالة كتبتها قبل سنوات حول علاقتي بالنوافذ لما وجدت أفضل من الصورة التي نشرتها مغردة سعودية اسمها منيرة في حسابها بتويتر.
لم أعرف إن كانت الصورة الفوتوغرافية التي تظهر فيها طفلة تواجه عدسة الكاميرا من وراء نافذة نصف مهملة، لمنيرة وهي طفلة فعلا أم أنها من اختيارها وحسب. وأنا، عندما أبديت لها إعجابي بالصورة وبتعليقها عليها، لم أحرص على سؤالها عنها. من الواضح أنني تعمدت ألا أسألها عن أصل الصورة لأنني أردت أن تكون تلك الطفلة أنا! هكذا رأيتها وأنا أسترجع حكايتي بل حكاياتي مع النافذة!
ورغم أن تغريدة منيرة منشورة منذ سنة إلا أن رياح التدوير”الريتويت” حملتها إلي مساء البارحة لاختتم بها مقالي القديم جدا.
عدت أبحث عن مقالي الذي كتبته قبل انتشار الانترنت، فكان لا بد من الاستعانة بالأرشيف الذي ضاع الكثير منه، لكن مقالة النوافذ لم تكن ضمن الذي ضاع. من قال أنني لست محظوظة أحياناً؟.
في ذلك المقال كتبت حكايتي المملة مع النوافذ هكذا؛ “غرفتي بلا نوافذ! حسنا.. لقد تعودت على الأمر، وربما لم أكن أشعر به أصلا منذ أن اختفت النافذة الوحيدة الضيقة التي كانت موجودة في الغرفة تحت ركام الأيام التي ما زالت تمضي .
أعرف أن النافذة هي الحد الفاصل بين الداخل والخارج أو بين الأنا والآخر، ولكن نافذتي لم تكن كذلك، كانت دائما دائرة ضمن دائرة، أو هي خط وهمي في فضاء محيط ومتقن في إحاطته.
كانت نافذتي، منذ أن صارت لي غرفة مستقلة بعد وفاة جدتي!، تطل على ساحة صغيرة هي جزء لا يتجزأ من البيت أو هي متنفس البيت الحيوي، ولذلك لم تكن هذه النافذة الضيقة بدورها لتمكنني من النظر عبر زجاجها إلى الشارع حيث الناس بصفتهم “الآخر”، وحيث الحياة بصفتها ما يجري بينهم حارا وطازجا وغير منقول إليّ على ألسنة الآخرين. ولكن نافذتي لم تكن تعرف كل هذا حتى تسمح أو لا تسمح به، وما كانت قادرة على أن تأتي إليّ بأي جديد، كانت مجرد باب صغير لا استخدمه كما الباب الكبير في الدخول والخروج، ولا أنظر إلى ما وراء الزجاج، فليس وراء هذه النافذة التي لا تشبه النوافذ الأخرى في وظائفها سوى تلك الساحة المسورة والمكدسة بركامات البيت وحوائجه الزائدة عـن الاستعمال اليومي ولكن ليس إلى الحد الذي يسمح لأهل البيت من التخلص منه نهـائيا ،وكان منظر الساحة الضيقة وأغراضها المكدسة دونما نظام أو حركة تذكر، مملا إلى الدرجة التي لا تغري أحدا بمتابعته أو النظر إليه. ولذلك لم أكن أقترب من هذه النافذة البائسة لأفتحها أحيانا قليلة جدا إلا لتغيير الهواء أو لخلق حركة ولو متوهمة في صباحات الغرفة المتوحدة بملكوت صمتها المسائي بالذات.
ولكن حتى هذه الفسحة المتوهمة من الحركة ضاقت بما لا يشبه الأمل! فالساحة الضيقة أصلا لم تعد تأتي بالهواء الجديد بعد أن ضاق البيت بحاجياته المهملة يوما بعد يوم، وتقرر أن يصنع للساحة المكشوفة للهواء والشمس والمطر سقفا يجعلها تستقبل المزيد من الحاجيات دون خوف من تهور الهواء و بلل المطر أو حرارة الشمس، وهكذا أغلقت نافذتي المسكينة دائما .
لماذا النافذة الآن ؟!
ولماذا الحديث عن وجودها أو عدم وجودها في غرفتي؟!
الواقع يقول بعدم وجود مناسبة عالقة الآن للحديث في هذا الموضوع بالذات، ولكنه يقول أيضا أن كل الأوقات مناسبة لحديث يتعلق بالأنا والآخر، ألم نقل منذ البداية أن النافذة في أحد تعريفاتنا الخاصة هي ذلك الخط الفاصل بين الأنا والآخر؟!
في المدرسة حيث تتعقلن الرؤى وتلبس ثوب العقل، كان البيت ذو الباب المغلق والنوافذ الواسعة المضيئة الكبيرة هو أول الأشكال التي أتقنت رسمها، وهو أول ما يخطر على بال قلمي الرصاصي وألواني الشمعية عندما تدعونا مدرسة الرسم لرسم ما نريد. كنت، وما زلت، أتفنن في رسم بيت غالبا ما يكون عبارة عن حجرة واحدة واسعة، لها أو له باب مغلق دائما ، ربما لإن الباب المغلق أسهل في الرسم من الباب المفتوح! وربما استشرافا مبكرا بما يمكن أن يجلبه الباب المفتوح من ريح فلماذا لا أسده كي أستريح؟!. أما النوافذ فكانت دائما مفتوحة ودائما واسعة ودائما مضيئة وكنت أرسمها أحيانا بأشكال مستطيلة وأحيانا أخرى بأشكال مربعة أو دائرية أو تعلوها أقواس كأقواس العمارة الإسلامية.
ولم يكن بالطبع لولعي الطفولي برسم النوافذ المختلفة علاقة بافتقادي الواقعي للنافذة في غرفتي مثلا فذاك كما أسلفت يسبق هذا، كما أن العكس في أمر العلاقة المفترضة كما يتوقع محبو التحليل النفسي الذي يربط بين الظواهر الراهنة وحوادث الطفولة الغائرة هو الصحيح، حتى أن أول ما أذكره من معالم أول بيت ما زلت أذكر طفولتي فيه هو النافذة!
لقد كانت أول نافذة في حياتي وكانت كبيرة جدا إلى الدرجة التي كنت استخدمها في الدخول أو الخروج، حتى صار الدخول والخروج بحد ذاته عبرها هوايتي الوحيدة إلى أن انتبهت والدتي فأسرعت بوضع قضبان حديدة لم تكن تسمح الا بدخول كفي الصغيرة مضمومة على أي شيء أستطيع التقاطه من أشياء البيت الدقيقة، وما أن يأتي المساء حتى تكون قد تجمعت على سياج النافذة الخارجي الكثير من الملاعق والسكاكين وملاقط الشعر وربما ساعة أو كسرة خبز أو عملة نقدية صغيرة أو..أو.. ألخ، وكان الحل هذه المرة هو الشبك السلكي الذي ثبتته أمي على مساحة النافذة الواسعة فتحول العالم كله عبر النافذة إلى مربعات صغيرة جدا أظل أراقب تحولاتها طوال النهار. أما أمي فلم تكن قادرة هذه المرة على إغلاق النافذة بشكل نهائي ، لقد كانت المنفذ الوحيد لهواء شمالي بارد في وقت لم نكن نعرف فيه التكييف أو تعرفنا الكهرباء!.
والنافذة التي ظللت دائما أحلم باتساعها وانفتاحي من خلالها على كل العالم ظلت عصية على رغباتي العادلة جدا. حتى غرفة مكتبي في الجريدة التي أعمل بها وجدتها بلا نوافذ، أعني بلا نوافذ على الاطلاق!”.
وهكذا بقى مقالي القديم معلقاً بالأسى بانتظار تغريدة منيرة لتكون الختام.
كتبت منيرة في تغريدتها: “قبل الانترنت كانت النافذة صديقتي أستند اليها أتأمل مباني وأشجار وقطط وبضع سيارات ومارة وموسيقى بالكاد تصل لمسمعي”.
وأكمل أنا: مكتبي الآن يحظى بنافذة أنيقة تطل على حديقة ومسجد وموقف للسيارات.. ولكنني نادرا ما أطل منها، فنافذة الانترنت أصبحت أكثر اتساعا من كل نافذة.. ومن يدري؟!