سعدية مفرح/
تنقذني الكتابة، ولو مؤقتاً، من الغرق في لجة الكآبة ومجاهيل الاكتئاب. فمنذ أن اكتشفت قدرة الكلمات التي نفرغها بالكتابة على إعادة ترتيب دواخلنا، وأنا ألجأ إليها فوراً كلما شعرت بأنني أقف عند حافة البئر التي أعرف تماماً أنها بلا قرار، وأنني بمجرّد الوقوع فيها لن أقوى أبداً على النجاة. لذلك، كانت الكتابة بالنسبة إليّ خيار نجاة، إن تجاوزت لذائذها التلقائية، ودهشتي المستمرة فيها. وبها أحاول دائماً أن أعيد اكتشاف مشاعري، وكل الأشياء والمعطيات الداخلية والخارجية التي تؤثر فيها، فتقفز بها إلى نهرٍ جارٍ أحياناً، وتحدق بها إلى أعالي السماء أحياناً أخرى. وفي كل مرّة يأتي اكتشافٌ من منظور جديد.
بالكلمات أحاول أن أقف على مسافةٍ معقولة مما يحلّ بي من مصائب على سبيل المثال، لأحاول أن أفصلها وكأنني أنفصل عنها مؤقتاً، لتكون موضوعي، بدلاً من أن أكون موضوعها، ولتصبح غايتي، وبدلاً من أن أكون غايتها.
سألني زميل صحافي، ولعله لاحظ علاقتي بالكتابة على هامش الوجع: “لا نكتب لأننا نمارس الكتابة عبثاً في أوقات فراغنا، أو لأننا نريد أن نقول ما يقوله الآخرون بطريقتنا الخاصة، نكتب لأننا، بتعبير الكاتب الأميركي ريك كاسيل، موجوعون من الحياة إلى آخر رمق، ونبدع القصائد كي نواجهها فنقتل حسراتنا الأخيرة بقذائف الكلمات.. من يكتبك أستاذة سعدية.. أنتِ أم الوجع؟ ولماذا هذا الإسراف في المأساة الشعرية بدواوينك؟”.
فقلت له: كنت في السابق أبتكر إجاباتٍ كثيرة عن هذا السؤال، عندما يوجّه إليَّ بصيغ مختلفة، أقربها إلى نفسي أنني أكتب لأكتشف ذاتي، أو لأجدني بين ركام الشخصيات المكونة لي ربما، ومنها أيضا أنني أكتب لأتداوى من كل أوجاعي وعقدي النفسية أيضاً، فالكتابة، وخصوصاً كتابة الشعر، تملك تلك الخاصية دائماً. لكنني في الآونة الأخيرة اكتشفت أنني أكتب فقط لأنني أحب الكتابة، وأن كل الأسباب التي كنت أسوقها ما هي إلا نتائج لاحقة لا أسباب. الشغف وحده يقودني إلى الكتابة، وأنا أستجيب لشغفي. صحيحٌ أن غالبية كتاباتي، كما لاحظ الآخرون قبل أن ألاحظ أنا، غارقة في المأساة، لكن هذا لا يسعدني كثيراً، فأنا أحاول أن أعيش الفرح أكثر مما أعيش المأساة. وغالباً ما أنجح في تجاهل شعوري بالوجع أو بالحزن في حياتي بشكل عام. ولكن يبدو أن ما أتجاهله في ممارساتي اليومية ينجح هو في التسرّب نحو كتاباتي من دون أن أشعر. ولعل هذا يشجّعني على المضي في حلمي بكتابةٍ مغايرةٍ دائمة. ومن يدري، ربما أجدني وقد كتبت الفرح والأمل، كما هي أحلامي وأمنياتي. صحيحٌ أن أحلامي قد تواضعت كثيراً في السنوات الأخيرة، لكنها لحسن الحظ لم تمت، وربما لأنني انتبهت لتواضعها ووثقته شعرياً في كتابٍ عنوانه “تواضعت أحلامي كثيراً”، فقد نجا كثير منها، بالإضافة إلى ما توالد منها وما استجد. نعم، أنا أمرأة أجيد صناعة الأحلام كما يبدو. وهذا يجعلني مستمرّة على قيد الشعر.
عدتُ اليوم إلى تلك الإجابة، لأن السؤال نفسه قد لاح لي، وأنا أنكبّ على لوحة المفاتيح في سبيل مزيد من التفصيل حول مأساتي الشخصية أخيراً، بعد رحيل أخي، فأجدّد الشعور بالامتنان للكتابة التي أحاول بها، ضمن محاولاتٍ أخرى، أن أنتشلني من مصيري، وأنا أقف على حافة البئر.
لست متأكدة إن كنت سأنجح في مهمة العبور، وأنجو هذه المرة أيضاً، فحافّة البئر مريحة، وأنا أتكئ عليها هذه المرّة، وما يتراءى لي من عمقٍ فيها يبدو مغرياً للمضي نحو طمأنينة النهاية، بعيداً عن القلق وزحام الآخرين، لكنني ما زلت أكتب وأكتب.
سألني زميل صحافي، ولعله لاحظ علاقتي بالكتابة على هامش الوجع: “لا نكتب لأننا نمارس الكتابة عبثاً في أوقات فراغنا، أو لأننا نريد أن نقول ما يقوله الآخرون بطريقتنا الخاصة، نكتب لأننا، بتعبير الكاتب الأميركي ريك كاسيل، موجوعون من الحياة إلى آخر رمق، ونبدع القصائد كي نواجهها فنقتل حسراتنا الأخيرة بقذائف الكلمات.. من يكتبك أستاذة سعدية.. أنتِ أم الوجع؟ ولماذا هذا الإسراف في المأساة الشعرية بدواوينك؟”.
فقلت له: كنت في السابق أبتكر إجاباتٍ كثيرة عن هذا السؤال، عندما يوجّه إليَّ بصيغ مختلفة، أقربها إلى نفسي أنني أكتب لأكتشف ذاتي، أو لأجدني بين ركام الشخصيات المكونة لي ربما، ومنها أيضا أنني أكتب لأتداوى من كل أوجاعي وعقدي النفسية أيضاً، فالكتابة، وخصوصاً كتابة الشعر، تملك تلك الخاصية دائماً. لكنني في الآونة الأخيرة اكتشفت أنني أكتب فقط لأنني أحب الكتابة، وأن كل الأسباب التي كنت أسوقها ما هي إلا نتائج لاحقة لا أسباب. الشغف وحده يقودني إلى الكتابة، وأنا أستجيب لشغفي. صحيحٌ أن غالبية كتاباتي، كما لاحظ الآخرون قبل أن ألاحظ أنا، غارقة في المأساة، لكن هذا لا يسعدني كثيراً، فأنا أحاول أن أعيش الفرح أكثر مما أعيش المأساة. وغالباً ما أنجح في تجاهل شعوري بالوجع أو بالحزن في حياتي بشكل عام. ولكن يبدو أن ما أتجاهله في ممارساتي اليومية ينجح هو في التسرّب نحو كتاباتي من دون أن أشعر. ولعل هذا يشجّعني على المضي في حلمي بكتابةٍ مغايرةٍ دائمة. ومن يدري، ربما أجدني وقد كتبت الفرح والأمل، كما هي أحلامي وأمنياتي. صحيحٌ أن أحلامي قد تواضعت كثيراً في السنوات الأخيرة، لكنها لحسن الحظ لم تمت، وربما لأنني انتبهت لتواضعها ووثقته شعرياً في كتابٍ عنوانه “تواضعت أحلامي كثيراً”، فقد نجا كثير منها، بالإضافة إلى ما توالد منها وما استجد. نعم، أنا أمرأة أجيد صناعة الأحلام كما يبدو. وهذا يجعلني مستمرّة على قيد الشعر.
عدتُ اليوم إلى تلك الإجابة، لأن السؤال نفسه قد لاح لي، وأنا أنكبّ على لوحة المفاتيح في سبيل مزيد من التفصيل حول مأساتي الشخصية أخيراً، بعد رحيل أخي، فأجدّد الشعور بالامتنان للكتابة التي أحاول بها، ضمن محاولاتٍ أخرى، أن أنتشلني من مصيري، وأنا أقف على حافة البئر.
لست متأكدة إن كنت سأنجح في مهمة العبور، وأنجو هذه المرة أيضاً، فحافّة البئر مريحة، وأنا أتكئ عليها هذه المرّة، وما يتراءى لي من عمقٍ فيها يبدو مغرياً للمضي نحو طمأنينة النهاية، بعيداً عن القلق وزحام الآخرين، لكنني ما زلت أكتب وأكتب.