لا أدري ما السر الذي أعادني إلى إعادة قراءة رواية “وطن مزور”، بعد شهور قليلة من قراءتي الأولى لها في أثناء سفر ما، فالتبست عليّ أحداثها، وتماهيت مع بعض الشخصيات فيها، وأنا أعيش وأعايش بعض الإشكالات التي حاولت الرواية أن تعالجها. وكنت أنوي الكتابة عنها، ولكنّ مشاغلي اللاحقة أنستني الأمر، أو ربما احترت يومها كيف يمكنني الكتابة عن روايةٍ شعرت أنها واحدةٌ من رواياتي الشخصية، والتي ترسم جزءاً من سيرتي الذاتية.
قبل أيام، رأيت الرواية أمامي ثانية. ولسبب ما، لفت نظري عنوانها الفرعي “يوميات البن والحناء”، ما جعلني أباشر هذه المرة قراءتها بصفتها مجرّد يوميات لكاتبةٍ تقتحم عالم الرواية للمرة الأولى، عبر بوابة اليوميات والأغنيات المنسابة بصوت الفنان اليمني الكبير أيوب طارش!
لا أقول جديدا عندما أقرّر، نيابةً عن روائيين كثيرين قرأت لهم بغزارة، أن الرواية نوع من أنواع اليوميات التي تعتبر تنويعا سرديا على السير الذاتية. ولعل حيلةً ما جعلت الروائي الأول يحاول أن يختبئ وراء شخصياتٍ وأسماء افتراضية لروايةٍ يكتبها، حتى لا يعترف للقارئ بأنه إنما يعيد إنتاج حياته الخاصة، فهل يمكن اعتبار رواية “وطن مزوّر” تنتمي إلى فن السيرة الذاتية؟ لا أعرف المؤلفة عائشة المحمود بما يكفي، لكي أقرّر بدقة، ولكنني صرت أعرفها من خلال الرواية على الأقل. وربما صرت أعرفني أيضا، فعائشة في يوميات البن والحناء تكتبني أنا أيضا، على الرغم من أنني لم أعرف وطن البن والحناء، ولم أزره. إنه التشارك في أزمةٍ تعصف بطائفة كبيرة من البشر في الأوطان الجديدة.
في الإهداء الذي كتبته عائشة المحمود في الصفحات الأولى للرواية منبع الوجع وطرف من القصة، وهي تتحول إلى غصّة؛ “إلى الوطن والحب.. إلى كل البقعة القصية النقية التي تنبع منها أجمل الأساطير وإليها يعود أصل الحكاية ومآلات الوجع..”. وبعد استغراقنا في قراءة صفحات قليلة من الرواية، نكتشف أن الوطن الذي يشير إليه الإهداء هو اليمن، بعراقة تاريخه وجمال طبيعته وصبر إنسانه، على الرغم من أن عائشة لا تسمّي الأوطان والمدن بأسمائها، لكن تكنّي عنها بما يدل عليها، ويجعل منها صورةً من صور المشاع أحيانا. وربما لهذا بدأت الكاتبة روايتها بصفحةٍ عنونتها بـ “محاولات تبرير”، وحاولت فيها أن تضعنا في قلب الحكاية، لا كقرّاء وحسب، بل كشخصياتٍ لا بد أننا سنجد ظلالنا بين سطورها، فهي كما تقول الكاتبة، “حكاية مجنونة تنتمي إلى شخص لا وجود له سوى في ذاكرتي الخائنة، إنها قصة مجدولة صوب أفق يستفز البوح ويوغل في التدفق، حول شخصٍ غير حقيقي في وطنٍ يناور الحقيقة، وطن يملك نسخا متعددة، كما يمتلك حق وجوده المنفرد. إنها قصة تتكرّر، في أوطانٍ تلاصقت واختفت معالمها حتى باتت تضيق وتخنق ناسها، مدن متخيلة لا وجود لها”. إنها إذن جدلية الوطن الحقيقي والوطن المزور، وفقا لرؤية الكاتبة، ما بين وطنٍ وُلدنا فيه، أو وُلد فيه آباؤنا وأجدادنا، ووطن آخر، هو الذي وجدنا أنفسنا نقيم فيه، وننتمي إليه، وربما لا نعرف غيره، على الرغم من نظرات أهله تجاهنا كوجود عابر!
تنحو هذه الرواية (190 صفحة، دار سؤال للنشر في بيروت، 2018) منحى فلسفيا وجدانيا جميلا، يناقش مسألة الهوية بأبعاد كثيرة واقتراحات موغلة في التعاطف الإنساني. ولأن الكاتبة التزمت اللغة الشعرية في كتابتها، فقد بدت كمن يرسم تلك الشخصيات رسما انطباعيا خالصا ضاعف من متعة القراءة، وجعل القارئ يتغاضى عن بعض الهفوات النادرة، ما جعل من “وطن مزوّر” وثيقةً تاريخيةً وجماليةً غارقةً في نكهة البن وعبق الحناء، لتتشير إلى إمكانات الكاتبة المكتنزة، والتي لم تفصح عنها كلها في هذه الرواية.. نحن بانتظار رواية عائشة المحمود الجديدة إذن بشوق كبير.
(العربي الجديد/ 11 أبريل 2019)