الرئيسية / دراسات عن التجربة (تجريبي) / 26.صالح العاقل، آخر الحالمين كان ..بين أسر القبيلة وأسر اللغة

26.صالح العاقل، آخر الحالمين كان ..بين أسر القبيلة وأسر اللغة

يتضمن أخطاء التجربة الأولى

“أخر الحالمين كان”بين أسرار القبيلة وأسرار اللغة

 

بقلم : صالح العاقل

كان على رواد النهضة والتحديث في الشعر العربي منذ فجر مشروع الاستقلال القومي أن يختار بين مستويين من الإرث الشعري أهدهما رفيع ذو اسلوب، امتزجت فيه الأصالة بالتمثل الإبداعي لثقافات “الخارج” والآخر هابط، حطت “العجمة” بلغته وأساليبه وجعلته كلاماً في كلام..

فكانت مختاراتهم “البارودي وغيره..” لشعراء عاشوا بين القرنين الثاني والسابع الهجريين. وأكد الجيل الذي تلاهم، اختيارهم ذاك، وطوره وأضاف عليه وتجاوزه جمالياً.

واستمراراً لأولئك وهؤلاء جاء شعراء التفعيلة، فلم يجد “عبده الأصنام” عليه مأخذا سوى خروجه عن بحور الخليل، لن الرومانسيين كانوا قد سبقوهم إلي نقل الوحدة العضوية من البيت الواحد إلي القصيدة.

وفي سياق هذا البناء الفني العربي العظيم نشأ الشعر الحر، متمثلاً روح “عمود الشعر العربي” “وليس المقصود هنا القصيدة العمودية” وتأثيرات الشعر الغربي “رامبو وويتمان، خاصة” في مقابسة متزنة.

وعلى اختلاف مدارسه الجمالية ظل الشعر وثيق الصلة بالتاريخ المضي للغة العربية وكان يبتعد أكثر فأكثر عن فنون البديع المقصود لذاتها والقيود التي أثقلت حريته عصور الأنحطاط. ومرحله إثر ملحة كان يعيد اكتشاف اللغة.

هذا التطور طال الشعر في الأقطار العربية بنسبة مقاربة لدرجة التغيرات الاجتماعية التي جرت فيها، وبالطبع لم يقفز عن الكويت، فلنا في الأجيال المتلاحقة للشعراء الكويتيين ما يشهد على ذلك منذ فهد العسكر وخالد الفرج وصقر الشبيب وخالد الزيد حتى أحمد مشاري العدواني إلي أحمد السقاف إلي جنة القريني ويعقوب السبيعي وعبد الله العتيبي وخزنة بورسلي إلي محمد الفايز والدكتور خليفة الوقيان والدكتورة سعاد الصباح وعبد العزي سعود البابطين إلي سعدية المفرح ودخيل الخليفة إلي شعراء آخرين وصفهم دخيل الخليفة في قصيدة له: “كالماء.. تتسرب من بين أصابعهم، شعراء”!

لكن وكما كتبنا في داسة سابقة فإن الأجيال الثلاثة الأولي شعراء الكويت انشغلت بمحاكاة قضايا الأمة في التحرير والاستقلال تعبيراً عن الانتماء وتأكيداً له مما جعل التواصل مع الحداثة محدوداً واقتصر على الفكرة دون الفن وعلى صياغة الشعار، لا على بنائه الجمالي، إضافة إلي أن الحداثة نفسها، كانت تشق طريقها إلي الشعر العربي بصعوبة بالغة، في غياهب نسق قيمي متوارث تأسس على النقل لا العقل، وعلى التقليد لا الإبداع.

رأينا هذه المقدمة ضرورية لنتبين الأرض التي نقف عليها ويقف عليها شعراء الكويت الآن، الفضاء الذي شقه لنا ولهم رواد اكتشف كل منهم لغته في اللغة، وأسلوبه في أساليبهم ثم اضافوا وطوروا وتجاوزوا بها وإليها حاملين تأثيرات تمثلوا روحها فجاءت في قصائدهم طبيعية وغير مفتعلة.

نعم .. ضرورية ونحن نجول عالم شاعرة شابة هي سعدية مفرح في مجموعتها “آخر الحالمين كان”.

حلم كابوسي

في المسافة بين أسر القبيلة وأسر اللغة تغتال سعدية مفرح عالمها الأخير حين تقوده بنزق في كهوف حلم كاوبسي حاولت عبرة صياغة الواقع المزيف وعبره نفسه حاولت صياغة المفارق والمغاير.

لكن كلتا المحاولتين لا تنجح تماما لاشتباكهما كثنائية تقبل رؤية مشتركة “في الصور الذهنية” ورؤية مشتركة أيضا “في النتيجة”، وبالتالي اشتباههما، فتغدوان حالة واحدة وخطاباً مشتركاً.

والضغط التجريدي الذي تمارسه المقدمة “ص15” والتي تستفيد من جماليات اللغة العربية وأساليبها فتبدو نثراً متقطعاً، يراكم دلالات متنافرة ومتضادة تتبادل مواضعها في النص، حتى الإيهام، هذا الضغط لا يقود إلا إلي التضمين بين حالتي “القبيلة التي تقلد فرسانها همهمات الغدو.. أمتشاق السيوف الملكية إذ ليس ملك “والحالم الذي كأن أولهم في امتطاء أعالي الحريق إذ ليس جمر وليس طريق” فيبدو ذلك الحالم نسخة من القبيلة وصورة لها، بينما أريد له أن يكون نقيضها ونبيها “شعرياً”.

لسنا نريد تقويل القصيدة ما لم تقله ولكن لنا على الشعر أن يكوم معرفة وجمالاً، وصيغة فنية لتجربة وجودية، في تفاصيل لا تراها إلا العين الشاعرة، أيا كانت تلك التفاصيل، رائعة أو قبيحة، مرة أو حلوة حديداً أو أغنية، أو كل ذلك معا.

في أسر اللغة تتراكم الصور مجردة، منقطعة في سياق من الأستطراد، يحد من الأثر الكلي الذي يجب أن تحدثه القصيدة: “آخر الحالمين كان / بموت الرمال التي توجتها حكايا الطيور / وهي تغادر شطآنها نحو ظمأ الأعالي ورهج الغيوم الشقية / أخرهم كان / بانتحار الأغاني التي ايبستها رياح التحول / انضجتها من فوق جمر التكون / بدء التكون في قافلة الضوء الجديد / أسكنتها بطون التلون بين الصراخ والحشرجات التي كانت تصادرها..” أن يحلم بموت الرمال، كرمز للقحط “..” فهذا طبيعي. ولكن غضافة الوصف “التي توجتها حكايا الطيور” يجعل من ذلك الحلم لا قيمة له في ما تريده القصيدة. هكذا رمال لا نحلم بموتها لأنها اكتسبت شيئا من روح الطيور العظيمة.. أو فليحذف الوصف إذا كان حشوا.

ونفس المحاكمة تنطبق على حلمه بانتحار الأغاني التي تقودها سعدية مفرح في صيرورة متناقضة دلاليا. وهي إذا تعمد إلي استبدال الأسم “الحالمين” بضميره رغم تباعدهما، فيظل ذلك مقبولا إلا أنها تلجأ إلي الحذف، ولا يبدو ذلك من باب اللعب على اللغة” إبداعنا للإيحاء، بل تعبيراً عن أنسياق دفين للتلاؤم مع الشكل التعبيري القديم “الجزء الأقل أهمية في ما عرف بعمود الشعر” وهو القافية فينشأ الترصيع والحشو: “وتملؤها من بقايا صديد من بعيد.. (؟)

محدودية التجربة اللغوية تضيق الخناق على تجربة سعدية مفرح الوجودية

تناقضات دلالية وسرد عادي وازدواجية في التعبير عن الرمز ومدلوله

أخر الحالمين كان..”

أو : “والخوف يلثم كل الوجوه اتركوه ..”؟”

أخرهم، (..) بالمياه وثلجاً وغيماً وبرداً. فلا “أتركوه” ولا “من بعيد” أدتا دوراً وظيفياً تعبيريا ولا الحذف الذي لا تبرره اللازمة “أخر الحالمين كان” قام بذلك .

ومثل ذلك كثير حتى ليكاد يغلب على السلوب.

وعلى ذلك تبرز غشكالية هامة في النص، تنسحب على الأعم الأغلب من نصوص المجموعة، تلك المتعلقة “بعمود الشعر” كما سماه نقاد الأدب منذ القرن الرابع الهجري، أو “الوحدة العغضوية” كما تسمى في النقد الحديث الذي تأثر بأرسطو وكولروج.

وهي تتمثل في ما يمكن تسميته “تزاوج المفردات” لتأدية الإيحاء بالصورة والتخييل، إن ميزة الشعر لا ترجع إلي الفاظه المفردة وإنما لارتباط تلك الألفاظ الذي يجعل منها “فنا قويا لغويا” كما سماه الأقدمون، وحددوا شرطيه بالثافة والصناعة.

وإن كان الشرط الثاني ممجوجاً كلفظه فإنه من وجهة نظرنا لم يفقد دقته مهما أطلق عليه من تسميات ومصطلحات.. إنه الدربة والتمكن، إنه الحرفية العالية في اللغة والأسلوب.

اضطراب المحاولة الأولي

وبالرغم من القناعة أنه وسيلة، وسيلة فقط، إلا أننا بدونه يمكن أن نطلق على النصوص أي شيء أخر، سوى “شعر”.

من الطبيعي أن لا نطلب من شاعرة شابة وفي مجموعتها الأولي، امتلاك قدر عظيم أو كبير من الصنعة والحرفية ويقيننا أن ذلك يتأتى، من خلال نمو التجربة والمران والتمرس بالأساليب بل والإطلاع على الشعر العربي القديم وإدراك تقنياته كما التجارب الشعرية الحديثة المنتقاة لئلا تتم المقابسة مع “خارج، مترجم جزئيا وسطحيا” فقط.

وللمجموعة الأولي هموها إذ يجري تحميلها بكل ما كتب دون الأخذ باعتبار، الفنية والحرفية، لما يكون للقصائد الأولي من مكانة في النفس ومن ارتباط بإدراكات بدئية للأشياء فنلمح الاضطراب المعبر عن التمثيل الأولي للنسق المعرفي الثقافي، سواء كان اضطرابا إبداعيا ينزع لتجاوز السائد أو أخر ناجما عن قصور في الرؤيا والرؤية ويعيق تشكل أبعاد الذات المبدعة.

وللاضطراب ما يبرره حتما، بالمجموعة الأولي هي الخطة الأولي لمفارقة الواقع والانتقال إلي الفني ولو نظريا.

ومن نافل القول إن درجة الوعي الاجتماعي التي يقف المجني عليها، وينطلق منها لتحديد الموقف العام من الفنون تلعب دوراً هاما في اختصار ولادة التجارب الإبداعية وجعلها أكثر يسراً وأقل توتراً، أو العكس مما ينعكس على جانبها الفني، لغة وأسلوبا.

في غياب التخييل وهيمنة تأثيرات “المقامة” يفسح المجال للسرد العادي المتكئ على محسنات لفظية كالترصيع فتتمدد الفكرة وتبهم:

../ وبقايا امرأة يحتويها سرير / تركض عيناه نحو الدم المستجبير / وتشرئب عيناها نحو السماء / مثلما تشرئب نحو الضياء / .

أو : / مشهد خارجي / سماء. يجلس الـ “..” القرفصاء خلسة ينظر في واحد من ثقوب كثيرة/ ترقش وجه الفضاء/ إلي منظر يشتهيه / لا يقدر أن يشتريه / يصفق كفاً بكف / يمصص في شفتيه / وحين يرى أعينا متجهات غليه / ينقل عينيه / للثقب الذي سيليه/ .

ثم ينتهي النص “سيناريو” هكذا: كادر / طعمه مرير / في غيه سادر / .

والمقطع اريد به النفاذ إلي حالة نفسية فيما يبدو لنا لكن جاء توصيفاً خارجياً ضعيفا واستطراديا كما أن “يمصمص في شفتيه” عامية. والسين في “سيليه” خطأ.

مما لا شك فيه أن هاجسا عظيما يشغل عقل الشاعرة، غلا أنه يقل على عذوبة الروح – والتي كانت غضة أنذاك – فالقصائد تتوزع على أعوام 1987 – 88 – 89. وفي المجموعة كثير من الأفكار المهمة والإشارات التي تكاد تعلن ولادة ما، بدءا من اختيار العاصفة المهزومة في زمن انهزام القيم وتراجع المثل واجتناب المبادئ وانتصار الخراب، انتهاء بالذهاب بعيدا في غابة محظورات الطوطم وهز ثوابته التي تحيل حيواتنا إلي سديم.

هذا الهاجس يتقدم حيياً حينا وغاضباً حينا وثائراً أحيانا أخرى. ثم نراه ينكفئ مفجوعاً مرة وملتاعاً مرة ومستسلماً مرة، ولكنه دائما مسكون بالحب.

والمجموعة تعيد صياغة العلاقات الشوهاء بين المرأة والرجل في ظل ذلك الهاجس فنكتشف الحب م في وهج الصمت وتعاليم الرب وخارج الإقطاعي فيغدو الجسد عشاً للحباري.

وإن كانت سعدية مفرح قد بدأت مجموعتها رافضة للكذب والازدواجية اللذين تمارسهما “القبيلة” إذ قلدت فرسانه همهمات الغدون امتشاق الأغاني، احتذاء الأماني، انتصار السيوف الملكية إذا ليس ملك / فهي تعود في نص – قلبيلتي – لتضبط تلك القبيلة في قاعها / تسخر م حضارتها المسكوبة المهانة/ .

والقبيلة في النهاية وغن كانت واقعاً معاشا لتشكيلة اجتماعية “بنو أب واحد” إلا أنها في مستوى ما من النظام الإشاري، دال لمدلول سوسيولوجي، ورمز لعلاقات ورؤى وسلوك.

حالة فصام

وعليه يمكن رصد حالة الفصام المعلنة في المجموعة. الفصام بين الرمز ومدلوله في سلم النظام الدلالي والذي يقود إلي التعمية فالإبهام.

ولسنا نقول إن ذلك وقع عمداً، وإن كثرة الإشارات المتناقضة إلي / القبيلة / عبر رموز جزئية حتى خارج هذين النصين تؤكد التمزق الذي تعيشه قصيدة سعدية مفرح في الولاء الروحي والانتماء الاجتماعية على مستوى المدلولات.

فمن “اعترافات امرأة بدوية”.: “فحين تعج بصدري رياح التغير / تفاجئني ضرباتها في جدار التذكر / ترش التصور إثر التصور / لبيت من الشعر / في لون عيني لونه / تمتد أوتاره ضاربة م في ثنايا الفؤاد / ساخرة / لرائحة لم تزل / رغم كل عصور التحضر / لاصقة بخلايا ثيابي / تذكرني بغيابي / وتعلن ساخرة / أننى كنت صانعة / ليس مثلي أحد م لقهوة، اسرق إن لم أجد / بنا الونها به / من عيوني السواد / أهيلها، إن لم أجد هيلا / بما ينبت من عطر / بين خلايا العناد / .

لقد اضطررنا لكتابة المقطع حتى نهايته لنؤكد أولاً ذلك التمزق، بالإشارة إلي الداليين المفصليين فيه، والإحالة إلي ما سبق :

رياح التغير / في مواجهة / بيت الشعر ورائحة القهوة /

ونحن لا نختزل مقطعا شعريا “قسرا” فحتى ما أطلقنا عليه من باب “اللعب على فكرة الانتماء” دالين، هما تركيبان غير موحيين لا بمفرد كل منهما ولا في السياق.

في نص ينداح مثلا بالاستطرادات والجم المقهورة التي تحاول إيصال الفكرة فنيا فلا تستطيعن إلي أن نكتشف أن تلك، ما هي إلا ذكريات، غذ “تهرب” بنا القصيدة إلي طالوعي” لحظة، لتقرا علينا تقريراً ضعيف السبك، مفرداته لا تؤدي معناها، فيقتل وهن اللغة، روح الشعر ، ومنه:

/ إذا ما نما “هرج” / يميت القلب في حضنه غذ يستطيل / بين جذوع تنبت في قاع قلبي / لاصقة بدبق “الطرش” / يراها الجميع نخيلاً / اسميها جنة للمستحيل / وبين أعمدة تمتد في جانبي شارع القار / تهدي الذين يسيرون يوازونها / ضياء ذا بريق جميل / .

ثم تعود إلي تأكيد الانتماء في مواجهة حاضر النفط، ومرة أخرى إلي الفصام بين المرمز ودرجته في السلم الدلالي:

مبارك للرمل / للقلب غذ لا يموت / للقهوة في لونها المسروق / جل انتمائي.. الخ.

فالمقصود بـ “المسروق” هنا، المسروق من لون العينين، وهي إحالة ضعيفة طالما ابتعد بنا النص كثيراً عن الجملة المعنية، وطالما – وهذا هو الأهم – جرت الإشارة إلي تغير المرحلة، بما يفضي إلي “سرقة” الأشياء الجميلة للماضي إلي “سرقة” الأشياء الجميلة للماضي وتغييب الفردوس المفقود (!).

هذه السلسلة من حلقات الأزدواجية والتناقض في صياغة التجربة الوجودية للذات الشاعرة، قد تقود إلي ما لا ينصف البنية الأسلوبية الفنية التي ترتكز عليها المجموعة المتكئة إلي مجموعة من التقابلات المتضادة بمعنى آخر : ألا تبدو تلك البنية انعكاسا لتناقضات التجربة الوجودية .

أكثر منها اسلوبا يعبر عن درجة حرفية معينة للتعهامل مع اللغة والفن؟ مع ملاحظة أن الكثير من الشعر الحدائي قد جنح إلي ذلك، مستسهلا تلك الأسلوبية البنائية من قاعدة وضوح “لعبة التناقض” بين النور والظلام.

/ من كل هذي الريح / اخترت عاصفة / هزمت لاسكنها /

/ من كل هذا الكون / اخترت عاطفة / مازلت أهزمها، لتسكننى/

إن الحداثة في الشكل ليست في هذا الجانب بمفرده أو ذاك إنما عملية شمولية تتعلق بالرؤية، وعليه فإننا نلاحظ ارتباكاً في الاختيار هنا.

فما معنى أن لا نجد “الوزن” من بحور الخليل أو شعر التفعيلة ونجد في ذات الوقت محسنات بديعية كالترصيع والطباق والجناس بل وشيئاً مما يذكر برد عجز البيت على صدره (!).

عاصفة / عاصفة : جناس ناقص.

هزمت / مازلت أهزمها طباق “بما هو هكذا” وهو تعبير ضعيف

لأسكنها / لتسكنني : رد العجز على الصدر.

وهذا ظلم. ظلم كبير لمدخل صغير أريد منه اختيار معبر عن الروح، أن يثقل بكل ذلك – كأنما عمدا – إن هذا المقطع لهو طير، يريد أن يحلق ولا يستطيع أنه ذبيح!

إلي جانب ذلك نرى كثيراً من الألفاظ الجزلة، في حين يكون المقطع أو التركيب أحوج ما يكون إلي لفظة عذبة او أخرى مأنوسة موحية، ولنقرأ هذا المقطع.

/ رجل وامرأة؟ / إن ما بيننا، لا يتسع لواو العطف / .

بغض النظر عن التركيب الذي لا قيمة بلاغية له، تكون الفكرة طازجة ومكثفة وبوجوده تنقطع.

إذا كان لابد من “تقطيع أوصال الفكرة” فلماذا تعمهون” التي دفنت شحنة الدهشة في “هائها” وأهالت عليها حجارة “العين”.

وفي نفس السياق، لنقرأ مقطع “صمت”، نعم “صمت” ولنلاحظ التنافر بين الحالة واللغة التي صورتها في سجع وترصيع وجزالة أحالت الصمت” وقيعة” يدنس ضجيجها هدوء المقبرة ويجعل من ريحانها رماحا يهلع منها القارئ: في بعض عينيك / أجثو غربتي جزعا / يجتاحني صمتي / كهدوء مقبرة تزدان بالريحان / يهمس في مخيلتي / للشآن صخب / يشتاقه صمتي / يخشى أن يداهمني / ينسى أن يعلمني / ويتوق للمد / في بعض عينيك / تغفو مهرتي هلعا/ ! / تصحو هدوءاً / تبكي على وأدي/ .

غذن حتى الجانب المتعلق بالحب من التجربة الوجودية والذي يمثل قمتها الجمالية كمفهوم علائقي ورؤيوي في المجموعة، يبدو مقيداً بالفضاء الضيق للتجربة الفنية واللغوية. وفي مقطع “قافية” : في فراشي / استكانت حافية / (!) / كان شعري يمارس رجولته م وأي أنثى / كانت القافية / (!) انتهي .

يفترض للمقطع أن يعكس لحظة أنعتاق وجودي من جميع أشكال القيود ويعبر فكرة أبدية الالتصاق بين الرجل والمرأة روحاً وجسداً والتي لا تقوم إلا على التلقائية، فلماذا لا نرى لغة تلقائية في رصد التجربة؟

وبما أن الحالة تفترض العري الكامل، لم استخدمت لفظة “حافية” إلا لتتفق مع “القافية”؟

تجربة محدودة

إن محدودية التجربة اللغوية، تضيق الخناق على التجربة الوجودية في أكثر اللحظات حاجة إلي الحلم!

عن الفكار العظيمة وحدها لا تصنع شعرا، إذ لابد من النظر إلي الفكرة في إطار الوحدة العضوية للنص / القصيد والتي يلعب الخيال فيها دوراً مركزيا، حيث يقوم بصياغة وحدة العاطفة أو وحدة الإحساس.

فحيثما لم تعن سعدية مفرح بالخيال / الصورة ، بدت نصوصها وكأنها بلغة أخرى وبدت عاطفة تلك النصوص عمياء، وحيثما فاضلت حرارة التجربة عندها وعنيت باللغة وأساليب بنائها بدت نصوصها / قصائد تزينها الصورة وتزيدها جمالاً، كما في قصيدة “سدى” التي تحمل توقيعا متأخرا “الشهر السابع 1989” ففيه نجد ارتقاء في الأسلوب التعبيري غذ تتآلف المفردات ويتم الابتعاد عن الاستطراد فتأتي الفكرة كثيفة والصور موحية:

لمن كنت تبري النهار المبارك هذا / وتغزله قلعة للضياء؟ / لمن كنت تغري الليالي الطويلة / بالاحتار / وترسمه بركة للبكاء؟ / لمن / كنت تجري البكاء الجميل / للاستخارة بين المدى والردي؟ / يا .. / صدى / لمن / كنت تغني سدى؟ / .

يبقى أخيرا أن نؤكد أن الشعر الكويتي الشاب لا يغني سدى، فهو مسكون بهواجس الإنسان الجوهرية، وسعدية مفرح احد رموزه الهامة، وايا كانت تجربتها في مجموعتها الأولي فهي جديرة بالدراسة الجادة والنقدي يحترم النص كما يحترم النفس.

روك هؤلاء الطالعون من الصحراي كزهور برية.

قصيدتان بألوان الشمع

إلي أول الحلم تحبو

تمنيت لو أمسكت عن حديثي فأغلقت كراسه الرسم عنها

ودونت في دفتر الشعر

.. أحوال هذا المساء

بدائية تلك افعال “ريم”

التي طوقتني ببعض الغناء

.. وبعض القبل

فأمطرتها بالهدايا الجديدة

وأعدتها أنني في الصباح..

سأحكي لها كل ما تشتهيه

واسكنتها بين جفني

حتى أنام

…………….

…………….

يومان قد مرا علينا ألان يا “ريم”

وأنا الذي وحدي اصارع دهشة

.. علقت بعينيك اللتين

أنام في جفنيهما.

فتثاءبت..

وأنا اصحح هامشاً بقصيدتي

تتأمل الوجه المشاغب فوق مرآة الزمن

فتقلبت في مخدعي

وتحسست كراسه الرسم

التي ألقت بها

وتناولت ديوان أشعاري

قرأت بدرس الحصة الأولي

أبي مازالت يكتب مثلما الأطفال..

بالقلم الرصاص

فتمددت القلب الصغير على يديها متعبا

لتهدهده

مجلة الكويت العدد 123 – 1/5/1994

 

عن Saadiah

شاهد أيضاً

1. خلف الأسلمي ، سعدية مفرح بيدها تنزع أثواب الصمت

خلف الأسلمي ، سعدية مفرح بيدها تنزع أثواب الصمت ، ، القبس قضايا القبس (الكويت) …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *