الرئيسية / ماء الحوار / لميعة عباس عمارة: لا يمكن أن تصل المرأة إلى العبقرية لأنها لا تملك أنانية الرجل‏

لميعة عباس عمارة: لا يمكن أن تصل المرأة إلى العبقرية لأنها لا تملك أنانية الرجل‏


2 يناير 2002/ سعدية مفرح:

“أنا الغريبة في أهلي وفي وطني”، هكذا افتتحت الشاعرة لميعة عباس عمارة حياتها الشعرية منذ أن كانت في الرابعة عشرة من عمرها، وكأنها تتنبأ بما ينتظرها من غربة بين الوطن والأهل، وبعيدا عنهما أيضا.

ولميعة عباس عمارة التي تزور الكويت هذه الأيام تلبية لدعوتين متتاليتين من وزارة الإعلام ممثلة بالمجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، ثم من مؤسسة جائزة عبدالعزيز سعود البابطين للإبداع الشعري، عاصرت عدة أجيال شعرية عربية، وامتلأت حياتها بالعديد من التجارب الشعرية والحياتية. وعلى الرغم من
أن النقاد تجاهلوا تجربتها الشعرية التي أسفرت عن تسعة دواوين، واحد منها بالعامية، إلا أنهم لم يتجاهلوا اسمها الذي ارتبط كثيرا بأحد أهم رواد التجديد في الشعر العربي الحديث، وهو الشاعر الراحل بدر شاكر السياب.

ومع أنها دعيت لإحياء أمسيات شعرية في عواصم غربية وعربية كثيرا، إلا أنها تقول “أن لدعوة الكويت خصوصية ما بعدها خصوصيةِ.. لقد بكيت فعلا وفرحا عندما تسلمت تلك الدعوة الكريمة”.

وستحيي الشاعرة الكبيرة أثناء وجودها في الكويت أمسيتين شعريتين، أولاهما ضمن البرنامج الثقافي المصاحب لمعرض الكويت السادس والعشرين للكتاب، حيث سيلتقيها جمهورها في أرض المعرض في مشرف عند السابعة مساء الغد، أما الأمسية الأخرى فستحييها ضمن الأسبوع المقبل ضمن فعاليات احتفالية “مئوية
الموت والميلاد” التي تقيمها مؤسسة جائزة البابطين للإبداع الشعريِ.

هنا لقاء مع الشاعرة التي فضلت أن تكون البداية شعرا، تقول:

لي في الكويت أحباءُ، وما برحتْ

وشائجُ القربِ تدنيهمْ وتدنيني

ما مر في سمرٍ ذكْرٌ لواحدهم

إلا وندّتْ من الأعماق: “يا عيني”.

 

*بعد كل هذه السنوات الطوال مع الشعرِ.. كيف ما زلت تحافظين على كل هذا الحضور في المشهد الشعري الراهن؟ فقد يبدو من السهل أن يحافظ شاعر ما على شعريته، ولكن المحافظة على الحضور هي ما يبدو أصعب من ذلك؟

-الأصالة لا تعرف التغيير، فالشاعر الأصيل مهما تغرب ومهما سكت، ومهما ابتعد عن محيطهش لا يتكلف شيئا ليحافظ على حضوره، وحضوره هو الشيء الطبيعي، وأنا شخصيا لم أتكلف شخصية معينة أو موقفا معينا لأنساه أو أبدله، هكذا كنت دائما، وهكذا أنا الآنِ.

 

*بدأت رحلة الشعر ونشره كما تشير سيرتك الذاتية منذ أن كنت في الرابعة عشرة من عمرك عندما أرسلت للشاعر إيليا أبي ماضي قصيدة نشرها لك وهو في أميركا، وما زلت مستمرة في الانتاج، ولكن ألا يبدو غريبا أن هذه الرحلة الطويلة لم تنتج سوى تسعة دواوين شعرية أحدها بالعامية؟

-هذا صحيح، ولكنني لست شاعرة متفرغة، فأنا إنسان في هذا المجتمع، أعطي لكل مهمة أنيطت بي حقها من العناية الكافية، فكمدرسة كنت أصرف جل أوقاتي ليس في تعليم طالباتي وحسب، انما في تهذيبهن وبناء شخصياتهن ليكن سيدات مجتمع، كما إنني من جانب آخر ربة بيت وأم لأربعة أبناء وزوجة وسيدة مجتمع، وقد
كنت أحاول ان آخذ من وقتي ومن راحتي في سبيل التوفيق بين كل هذه المهمات.

*ولكن هل تعتقدين أن الشاعر بحاجة إلى تفرغ لممارسة شعريته؟ وعلى صعيد آخر؛ هل تعتقدين أن ما تقولينه يعتبر بشكل عام أحد أسباب تفوق الرجال في النتاج الشعري على النساء؟

-أحسنتِ.. أحسنت. أنا أؤمن ان المرأة لا يمكن أن تصل إلى العبقرية لأنها لا تملك ذلك القدر من الأنانية الذي يملكه الرجل، فالمرأة تضحي بوقتها من أجل إسعاد الآخرين في المجتمع حولها، أما الرجل فهمه عمله فقط، فهو مخدوم في
البيت، ومتفرغ حتى وان كان في عمله، ولكن المرأة لم تصادف مثل هذا التفرغ، والتي صادفت مثل هذا التفرغ هي المرأة التي أبدعت مثل مدام كوري التي تفرغت إلى العمل، وحياتها الخاصة لم تأخذ منها الكثير، خاصة إن شريك حياتها كان يعمل معها وفي اهتمامها نفسه، وهذه الحالة نادرا ما تحدث في محيط النساءِ.

والمبدع بشكل عام لا يشترط فيه أن يكون مرفها ماديا، فهو يحتاج إلى أن يقوم بأعمال كثيرة، وأنا شخصيا خلال إقامتي في أميركا في السنوات الأخيرة وقبلها خلال إقامتي في باريس، كنت أفتقد أن أكون السيدة المخدومة،  فأنا حاليا أخدم نفسي وأخدم الآخرين، خاصة في عدم وجود خدم هناك، وكل تلك المهمات اليومية تأخذ الكثير من وقتي مما جعلني أؤكد أنني لم أكن في يوم من الأيام متفرغة للشعر.

 

*هل تأسفين على ذلك؟ أعني هل تعتقدين أنك كنت ستنتجين ما هو أفضل أو أكثر لو أنك تفرغت؟

-لا.. لم آسف على هذا الوضع مطلقا، لأن الكثرة لا تعني الجودة، فربما الشاعر ينحدر شعريا نتيجة كثرة ما ينتجه من شعر، ويكفي اننا أحيانا نخلد شاعرا من أجل قصيدة واحدة فقطِِ مثل الشاعر أبي زريق الذي خلدته قصيدته اليتيمة وحدها.

 

*على هامش هذه القضية؛ هل تعتقدين أن شعر المرأة العربية المعاصرة، ونتيجة لظروف عدم تفرغها، جعلته يستحق أن يوضع في تلك المنطقة المعزولة التي تسمى “شعر المرأة” أو “الشعر النسائي”؟

-لا.. لا يجوز أن نقول هذا “شعر نسائي”. الشعر شعر، شعر جيد وشعر غير جيد، وإذا كانت أحاسيس المرأة يمكن أن تعبر عنها امرأة فهذا جميل ويمكن أن نسميه شعر امرأة بالفعل، لكن المرأة تمر أحيانا بتجارب لا تستطيع أن تعبر عنها، أو أنها تعبر عنها بشكل سيء، وربما يستطيع شاعر ما أن يعبر عنها بشكل أفضل، ولهذا أعتقد ان التمييز بين شعر المرأة وشعر الرجل كان يعود إلى قلة الشاعرات والمثقفات، أما الآن، وقد زاد عدد الشاعرات والمثقفات فلم يعد هناك مبرر لهذا التمييز.

المكانة العليا للشعر

*كلاسيكيا.. نعلم أن الشعر هو ديوان العرب، فهل تعتقدين أن هذا الفن الرفيع ما زال يحتل تلك المكانة الرفيعة؟ أم أنه تنازل عن تلك المكانة لصالح فنون أخرى لم تكن معروفة عربيا بدرجة معرفتنا بها الآن مثل الرواية والفن التشكيلي والمسرح؟

-لا يوجد فن يلغي الآخر، ولا يمكن أن يستطيع أحد هذه الفنون إلغاء الشعر أو التقليل من مكانته، فالشعر تبقى له المكانة العليا. لقد كان الناس يأتون ومن أماكن بعيدة ليسمعوا الشعر الحقيقي أينما كان. ولكن دعينا نقول أن الأمور تختلف بين شاعر وآخر، وهذا يعتمد على مستوى هذا الشاعر أو ذاك.

*ولكن هل ما زال الناس يأتون من أماكن بعيدة لأجل عيون السيد الشعر؟

-دعيني أخبرك عن تجربتي في هذا الشأن؛ لقد كنت خلال الشهور الأخيرة في لبنان، فهل تصدقين أنني دعيت أكثر من أربعين دعوة لإحياء أمسيات شعرية من جهات متعددة وفي أماكن مختلفة؟ هذا عدا الأمسيات التي اعتذرت عنها، حتى أنني أحييت آخر أمسية في يوم سفري، وقد حضرها جمهور غفير من عشاق الشعر، فهل يدل هذا على انحسار لمكانة الشعر وقيمته في المجتمع؟

*هناك من يربط جماهيرية شاعر معين بقدرته على التعامل مع المنبر ومع  الميكروفون، ولعلي أقصدك أنت بالذات بهذه الإشارة لأنك كثيرا ما اتهمت من قبل الكثيرين من النقاد بأن قيمة شعرك تنحصر في طريقة إلقائك له على المنبر،  وتنحسر هذه القيمة عنه عندما يقرأ على الورق؟

-صحيح.. كثيرون قالوا إنها ناجحة لأن القاءها جيد، أو لأن حضورها جيد، وأنا أعتقد ان هذا الاتهام وحده اعتراف بالفضل.

*.. ويقولون إنها جميلة أيضا؟

-يقولون أنها جميلة، ويقولون أن صوتها جميل، ويقولون، ويقولون، وأنا أقول أن كل هذه الأقاويل والاتهامات التي توجه إلي هي حسنات، فلماذا أدافع عنها أو أنفيها؟ لقد خلق الشعر ليلقى، وهوميروس كان يغني شعره، كما أن العرب يستخدمون عبارة “أنشد الشاعر قصيدته”. دعك من بعض الشعراء الذين يعانون من عجز طبيعي عن الحضور أمام الجمهور والتواصل معه، فنجد أن هناك من الشعراء من يجلد الجمهور بقصائد بعيدة عن الذوق وبإلقاء سيء ولمدة طويلة، وأنت بالتأكيد تشاهدين الكثير من نماذج هؤلاء.

 

*أتذكر أنك كتبت بصورة كاريكاتورية عن شاعر ينتمي إلى هؤلاء قصيدة قصيرة قلت فيها؛ “أشاعر هذا الذي بثقله ما شعرا’؟

-نعم.. صحيح، وكنت فيها أشير إلى نموذج لنوعية من الشعراء الذين يعيبون علي حسناتي، ولعل انتقادا واحدا من كل الانتقادات التي وجهها لي هؤلاء تكفي لرفع شخص.

 

التجديد من داخل القصيدة

*ألهذا السبب ارتبطت كليا بالشعر الكلاسيكي الذي يحتفي بالموسيقى والإيقاع على الرغم من أنك جايلت وعاصرت ورافقت مجموعة من شعراء كلية المعلمين في بغداد والأربعينات الذين هم أول من دعوا الى الشعر الحر وكرسوه مثل بدر شاكر السياب ونازك الملائكة وعبدالوهاب البياتي؟

-أنا شاعرة عربية أرتبط بجذوري التاريخية التراثية، وأقر وأصر أن التجديد يجب أن يكون في داخل القصيدة لا في خارجها، أي أن يكون في المضمون لا في الشكل، وليس من التجديد أن أقول نثرا وأدعي أنه شعر.

 

*ألم يؤثر عليك زملاؤك ورفاقك الشعراء آنذاك بدعواتهم الجديدة؟

-في بادئ الأمر احترمتُ تجربة بدر شاكر السياب، وتصورت أن هذا هو اختراعه واكتشافه، ولا يحق لي أن أقلده، وكنت طبعا مخطئة، لأن هناك غيري من قلده، وبكثرة، وأكثر من النشر، أكثر من بدر شاكر السياب، على الرغم من أنه مقلد لبدر وتابع ومتأخر عنه، وكان يسمعه فينسج على هذا المنوال الجديد، أما أنا فلم أفطن إلى هذه اللعبة، ولست آسفة على ذلك.

 

*بمناسبة الحديث عن السياب، لن أسألك السؤال التقليدي عن علاقتك به، ولكن أسألك؛ ألا يضايقك ذلك السؤال التقليدي الذي يرد في كل مقابلاتك تقريبا، حتى بدا الأمر وكأن لا يوجد في تجربة لميعة ما يهم سوى علاقتها ببدر شاكر السياب؟

-طبعا يضايقني. إنهم يحاولون، خصوصا الشعراء الكبار منهم ، يحاولون تحجيمي، وإبعادي عن دائرة الضوء، على الرغم من أنني متواضعة جدا ولا أزاحمهم ولا أرد عليهم، ولا أتكلم عن نجاحاتي كما يتكلمون، وأنا أعترف أنني مقصرة في حق نفسي، ومساهمة في التعتيم على نفسي. إنهم يريدون القول أنني مجرد امرأة جميلة، أو أن أهميتي تعود إلى حب بدر شاكر السياب لي ذات يوم، ولكنهم فشلوا لأنني وأنا في هذا العمر المتقدم الآن، لم أعد أملك ذلك الجمال، وقد تزاحمني فيه الكثيرات، وأنا مبتعدة عن هذا الميدان، كما إنني ابتعدت كثيرا إلى أن شاب شَعري، وعدت أخيرا لأجد من الحفاوة أكثر، وهذا يعني أن كل اتهاماتهم باطلة، وحضوري لا يعود إلى علاقتي ببدر شاكر السياب.

 

*وعلى الرغم من ذلك، أنت تعترفين بقيمة هذه العلاقة وبقيمة بدر شاكر السياب وتذكرينه في لقاءاتك بكل خير؟

-لقد كان بدر إنسانا عظيما، وأنا آسفة لأنني لم أستطع أن ألبي طلبه بالارتباط لأنني كنت حريصة لأن أبقى شخصية مستقلة، فارتباط شاعر بشاعرة يلغيها.

 

*هل تريدين أن تقولي أن هذا هو السبب الوحيد لعدم ارتباطكما بالزواج؟

-لا.. فهناك أسباب أخرى، منها حياتنا الاجتماعية التي وقفت حائلا بيننا، فهو كان إنسانا ينتمي إلى بيئة يحتاجه فيها أهله، وهذا أيضا ينطبق علي، أي أن كلا منا كان مكلفا برعاية عائلة ولسنا أحرارا لاتخاذ قرارنا بالزواج في مثل ذلك العمر. وأنا لست نادمة على ذلك، لقد قطعنا ما بيننا من علاقة عاطفية ونحن في الذروة، فبقيت الأماني جميلة والصورة طرية لم يهزمها الملل والتكرار والروتين. لقد بقيت الأشياء بجمالها وهذا هو موقف الفنان من الحياة، فهو يجب أن يحتفظ بالأشياء وهو في الذروة.

قصائدي إلى زوجي

*قرأت لك في أحد دواوينك قصيدة تعود إلى الستينات بعنوان “رسالتان الى الكويت”، فهل كانت موجهة إلى السياب أثناء إقامته في الكويت؟

-لا.. لقد كانت القصيدة موجهة إلى زوجي الذي كان يعمل آنذاك في الكويت.

*وقصيدة أخرى كتبتِها مذيلة بما يشير الى أنك كتبتها على رمال الشاطئ الكويتي، فهل كانت إلى زوجك أيضا؟ أو إلى بدر؟

-إلى زوجي.. وكتبت أيضا قصيدة له بعنوان “أشلاء”، وفيها أشير إلى عودة زوجي من الكويت وهو مريض بالسكر. وأتذكر أن النقاد حينها لم يعرفوا عمن كتبت هذه القصيدة مما دفعهم إلى الاعتقاد بأنها قصيدة إباحية أو جريئة فوق العادة.

*بالمناسبة.. كم سنة عشتِ في الكويت؟

-لا.. قليل جدا، كانت مجرد زيارات، والحقيقة أن العراقي لا يحب الهجرة، وقديما كانوا يستغربون كيفأ السامرائي يهاجر إلى البصرة للعمل، لكننا الآن صرنا نهاجر بالبحر والبر، ومشيا على الأقدام.. ونغرق!

 

*صرحتِ أكثر من مرة أن هناك الكثيرين من الذين أحبوك من الرجال من دون أن تعرفي حقيقة مشاعرهم نحوك إلا بعد موتهم..!

-مع الأسف، وقسم منهم حتى الآن لا أعرفهم. وأنا أعتقد أنهم، احتراما لي، لم يتقدم إلي منهم أحد ويقول لي؛ أنا أحبكِ!

*هل تشيرين إلى مأساة المرأة الناجحة الذكية التي تخيف الآخرين من الاقتراب  منها؟

-نعم..اإنهم يتهيبون الاقتراب منها حتى لو كانوا يحبونها بمنتهى الصدق.

*وهل تهيب النقاد الكتابة عنك أيضا حتى لا يتهموا بأنهم يجاملون امرأة جميلة؟

-نعم.. هذا ما حدث معي، لقد تهيبوا الكتابة عني خوفا من هذا الاتهام، بل وخوفا من زوجاتهم الغيورات. وبالمناسبة.. فقد كتبت قصيدة وجهتها إلى هذا النوع من الزوجات الغيورات قلت فيها؛

سيدتي.. مني أنا اطمئني،

فزوجك المصون في أمان..!

*ولكن من غير المعقول أن لكل نقاد الوطن العربي زوجات غيورات منعنهم من  الكتابة النقدية عنك؟

-لا.. لا.. هناك أسباب أخرى تعود معظمها لتواضعي الشديد. وقد وجدت أن التواضع رذيلة صنفت خطأ بين الفضائل. التواضع، كما يقول محمد عبدالوهاب، يقتل الموهبة، والتواضع المصطنع الذي يفتعله بعض الناس لاستدراج المزيد من المديح معروف ومكشوف، لكنني متواضعة بصدق، وأنا متواضعة لأنني لا أفتخر بنفسي، ولا ألبي كل الدعوات، وأعيش بعيدا عن الناس في مناطق بعيدة، وأتعمد عدم الاشتراك في كثير من النشاطات، وهذا ما أثر سلبا فيّ.

*ولكن ألا ترين أن من أسباب ذلك العزوف النقدي الشديد عن شعرك يعود إلى عدم انضوائك تحت لواء أي حزب سياسي من تلك الأحزاب التي كانت آنذاك “تلمع” وتكرس المنتمين إليها من الشعراء وغيرهم؟

-طبعا.. طبعا. لقد كان هذا هو الذي يبني شخصيات مثل هؤلاء الشعراء، وإن كانوا شخصيات فارغة وكاذبة. لقد عاصرت بعض الشعراء، ارتفع قدرهم وعينوا في مناصب مهمة، وترجمت أشعارهم وكتب عنها كثير.

* كأنك تشيرين إلى عبدالوهاب البياتي؟

– مثلا مثلا، وهناك الكثيرون غيره، أما أنا فقد كنت أنال الاضطهاد بسبب السياسة

من دون الكسب، ففي بداية الستينات مثلا هددنا بحياتنا وحياة أطفالنا، فأخذت أطفالي ولجأت إلى ألمانيا الشرقية فحكيت لهم عن ظروفي والتهديدات التي وصلتني بالقتل في بلدي وطلبت منهم أن أعمل بالتدريس. وعلى الرغم من أن الصديق عزيز شريف قد مدحني عندهم كثيرا، إلا أنهم سألوني إن كنت منتمية إلى الحزب الشيوعي أم لا؟ فقلت لا، عندها قرروا ان يضعوني في مخيم بائس وكريه للاقامة فيه، مما دفعني للهرب إلى ألمانيا الغربية في الليلة نفسها، لأنني لم أحتمل المكان، وأنا متأكدة إنهم كانوا سيضعونني على رأسهم لو كنت شيوعية. ودعيني أخبرك أكثر من هذا، فأنا أتذكر أن هناك بعض الأسماء التي فرضت على اتحاد الكتاب لدينا آنذاك على الرغم من تواضع موهبتهم، فقط لأنهم شيوعيون، وهذا ينطبق على الأحزاب الأخرى أيضا، وأنا لم أدخل في لعبة الأحزاب، ولا في لعبة أخرى حدثني عنها الشاعر الراحل بلند الحيدري، عندما قال لي أن الأمر يتطلب أن أكتب عن شاعر معين، وهذا الشاعر يكتب بالمقابل عني، والنتيجة أننا نصبح كلنا شعراء كبارا!

ديوان لميعة

*على الرغم من أنك أصدرت في تاريخك ثمانية دواوين بالاضافة إلى التاسع الذي أصدرته بالعامية إلا أن هذه الدواوين تحولت في آخر طبعة لها صدرت بإشرافك إلى ستة دواوين فقط، كيف؟

-لقد كانت الموضة السائدة آنذاك تحتم على الشعراء أن يكتبوا قليلا من الكلمات في الصفحة الواحدة، لكنني اكتشفت بعد ذلك أن هذه الطريقة تعني بيع أوراق فارغة للقراء، فحاولت أن “أحشر” القصائد في أوراق أقل حتى تأخذ مجالا أفضل عند النقل والبيع والشراء والقراءة. والمسألة ليست مسألة تجارية، فقد صرفت على هذه الطبعة من جيبي الخاص الشيء الكثير لأنني أريد أن أسلم أمانة للأدب العربي قبل أن
يتلاعب بها الآخرون.

*هل تعنين  أن “حشر” القصائد في أوراق أقل هو ما قلص عدد دواوينك من ثمانية إلى ستة؟ ألم تحذفي من هذه الدواوين بعض القصائد السياسية مما تسبب بذلك التقلص؟

-لم تكن عندي قصائد سياسية بالمعنى المباشر، ولكن هناك بعض الأبيات التي  جاءت عرضا، فعندما أتحدث في قصيدة عن الرصافي أو غيره مثلا لا بد من أن تدخل السياسة في بعض أبيات  القصيدة، وهذه القصائد هي التي حذفتها.

 

*هل يعتبر مثل هذا الحذف تراجعا عن بعض المواقف؟ وألا تعتقدين أن من حق الباحث الذي يريد البحث في شعرك أن يقرأ دواوينك كاملة؟

-نعم. ربما سأعيد هذه القصائد المحذوفة في الطبعة المقبلة. سأعيد كل القصائد  المحذوفة وأطبع أعمالي كلها من جديد في ديوان واحد هو “ديوان لميعة”، وأتذكر في هذه اللحظة أنني حذفت بعض القصائد لأنني اعتقدت أنها ضعيفة فنيا، ومنها قصيدة لي بعن وان “المطلقة”، أقول في بعض أبياتها:

حين ألقاك صدفة في طريقي

وجها من ألف وجه يمر

يعجب القلب، أنت كنت

وعالمي صدرك الرحب

هكذا خاليا.. خاليا.. أيها القلب؟

ومضة، ولتكن ندما، أو عداء

ألم يعد عتب

أكما تفرغ السحب؟

وقد لامني الكثيرون على حذف هذه القصيدة. أنا لم أكن مطلقة ولكنني تمثلت

فيها مشاعر صديقتي التي حكت لي عن تجربتها في الطلاق.

 

الغزل والسياسة

*قرأت لك في إحدى لقاءاتك الصحفية تصريحا ساخرا تقولين فيه أنك انشغلت بكتابة الغزل “حتى لا أدخل السجن”!

– ولكن لم يكن سخرية، هذا حقيقي، والسبب يعود إلى أنني حوربت لأن قصائدي  وطنية، بل أن محاربتي وصلت إلى أن تعدم امرأة بدلا مني بالخطأ، ولذلك لجأت إلى شعر الغزل. لقد كتبت الغزل وأنا كبيرة، لأنني اكتشفت أن الغزل لا يدخلني السجن، ولا يقدمني إلى المشنقة ويدخل كل البلاد العربية من دون استئذان.

 

*هل يمكن اعتبارك أكثر الشاعرات العربيات المعاصرات جرأة في الغزل؟

-لا.. أجرأ مني تلك الشاعرة الجاهلية التي تقول غزلا صريحا في أبيات جميلة جدا.

*لعلك تشيرين إلى الشاعرة عشرقة المحاربية؟

-نعم نعم. على الرغم من أن الكثيرين قالوا أنها مجهولة الاسم، لكنني متأكدة أنها

عشرقة المحاربية التي تقول:

جريتُ مع العشاق في حلْبة الهوى

فجزتهمُ سبقا وكنتُ على مهلِ

فما لبِسَ العشاق من حلل الهوى

وما خلعوا إلا الثياب التي أبلي

ولا شربوا كأسا من الحب حلوةً

ولا مرة إلا وشربهم فضلي..

وغيرها كثيرات من الشاعرات القديمات، بل أن هناك شاعرات معاصرات أجرأ مني يكتبن غزلا مكشوفا مما لا أجرأ على كتابته.

 

لميعة والجواهري

*في أوراقك التي نشرتها في جريدة الشرق الأوسط قبل سنوات قليلة أشرت إلى  مناوشاتك القديمة مع الشاعر محمد مهدي الجواهري، فما مدى جدية تلك المناوشات؟
-أنا أحب الجواهري، ولكنه كان يستفزني لأنه كان يعتقد أنني لا أقرأ الكتب الجادة،

لذلك استغللت فرصة قراءتي لأحد دواوينه الصادرة في ذلك الوقت لأخبره بأنني وجدت فيه بعض الملاحظات النقدية، وعندما قرأ تلك الملاحظات التي كنت قد دونتها في ورقة أعجب بها والتفت إلى من حوله من أصدقائه النقاد، مثل محمد مهدي المخزومي وعلي جواد الطاهر، وقال لهم؛ كيف فاتتكم هذه الأشياء من ديواني؟

وقد كتبت كل هذه الملاحظات والمناوشات حولها في جريدة الشرق الأوسط قبل سنوات، عندما كان الجواهري على قيد الحياة، ولكنه لم يعلق عليها لأنه بالتأكيد نسي كل هذه الأشياء، وأنا أيضا قد نسيتها لولا أنني لحسن الحظ وجدتها مكتوبة في أوراقي القديمة التي ما زلت محتفظة بكثير منها.

لميعة ونازك الملائكة

*لاحظ بعض الذين قرأوا أوراقك المستلة من سيرتك الذاتية والمنشورة في جريدة الشرق  الأوسط أنك حاولت التقليل من شأن الشاعرة نازك الملائكة في كتابتك عن علاقتك بها؟

-بالعكس، أنا أقول أن هناك نقطة يجب أن تدرس في شعر نازك الملائكة، وقد أشرت إليها في تلك الأوراق، ولكن يجب على الباحثين أن يبحثوا فيها، وتتلخص هذه النقطة في أن المرأة عندما تشعر بأنها غير مرغوب بها من الرجال، أو أنها غير محبوبة لن يكفي احترام كل العالم لها لأن يملأ فراغ  قلبها.

*وهل كانت نازك كذلك؟

-نازك عبقرية وإنسانة عظيمة وشاعرة كبيرة، بل هي عندي أكبر الشاعرات، ولكن  نظرة الرجل إليها سببت لها هذه العقدة النفسية التي ما زالت تعانيها، شعور المرأة أنها فقط محترمة وفقط مقدرة لموهبتها لا لأنها امرأة، شعور تتعرض له المرأة فتصاب بعدة أمراض نفسية.

*هل صرحت لك نازك في يوم من الأيام بمثل هذا الشعور؟ هل كنت شاهدة على حادثة ما تدل على ذلك؟

-لا.. ولكن صديقة نازك المقربة، وتدعى لبيبة، جلست معي ذات يوم جلسة تجلٍ، وتحدثنا حول كل هذه الأمور، ثم أن الكثير من هذه الأمور كانت معروفة في أوساطنا.

وأنا بصراحة أنا أشعر بالأسف عندما أرى أن المرأة لا تقيم إلا من خلال شكلها. أنا مع نازك وضد هذه النظرة السطحية إلى المرأة العظيمة التي حولتها إلى امرأة كئيبة، ولو درسنا شعر نازك، لاستخرجنا الكثير من كلمات الكآبة والظلام والتشاؤم من قصائدها وكل ذلك مبعثه شيء واحد وهو أن المرأة التي تشعر أنها موضوع إعجاب كأنثى تختلف عن المرأة التي تشعر أنها موضع إعجاب لعبقريتها فقط.

 

*هل كانت نازك صديقة مقربة لك؟

-لا لم تكن صديقتي، فهي أكبر من تكون صديقتي، ولكني من المعجبات بها، لقد

تعرفت عليها في الجلسات التي كانت تعقد في بيت الراحل محمد شرارة، ثم زاملتها في العمل في مدرسة واحدة، ولكني لم أكن صديقتها لان نازك لم تسمح لي بصداقتها.

*لماذا؟

-هي تقول هذا. لقد قالت لي ذات يوم إننا معرفة ولسنا صديقتين، لانني أمثل النقيض لنازك، في الشخصية والجرأة وفي نظرتي للحب، وفي الاضواء التي كانت مسلطة علي في الجامعة.

*هل أحبت نازك رجلا ما؟

أنا سألتها هذا السؤال ذات يوم، فقالت لي؛ “إنك تهينينني يا لميعة”، فنازك تحب فعلا، ولكن كيف جازاها هذا الرجل الذي كانت تحبه؟! لقد كانت خيبة الأمل هي النتيجة في كل المراحل وكل العلاقات.

*هل تعرفين الرجل أو الرجال الذين أحبتهم نازك؟

-هذا ليس من واجبي قوله، كثيرون يعرفون الأسماء، ولكنني لا أريد ان أذكرها الآن.

*هل أحبت السياب مثلا؟

-لا. لم تحب السياب، ولكنها أحبت شعراء وآخرين ليسوا شعراء، عراقيين وغير عراقيين، وقد كتبت كل هذه الاشياء ولكنها لن تنشر إلا بعد موتي وموت نازك.

*هل كانت نازك الملائكة تغار منك؟

-أبدا.. نازك لا تغار من أحد، وعندما كانت تشعر بالمرارة تجاه شخص ما كانت تكتم. هذه المرأة عندها من الكبرياء الكثير بحيث لا تظهر استياءها من أحد أبدا.

*وهل كنت انت تغارين من نازك؟

-أبدا.. لأن حياتي مليئة، فأنا لا آسف على شيء، وبالقليل الذي كتبته حققت وجودي كأمرأة. لقد تزوجت مبكرا وأنجبت الأبناء وعرفت الحب بأجمل ساعاته، فلا آسف لان النقاد لم يكتبوا عني كما كتبوا عن نازك مثلا.

 

أنا الغريبة

*وأخيرا.. أي غربة تعيشها لميعة عباس عمارة؟

-“أنا الغريبة في أهلي وفي وطنيِ”، قلت هذا في أول قصيدة كتبتها وأنا في الرابعة

عشرة من عمري!

*وماذا عن غربتك الآن وقد بلغت من العمر..؟

-عتيا.. بلغتُ من العمر عتيا، وأصبحت غربتي عن البلاد العربية مؤلمة، وأنا أقول

بهذا الصدد؛

“يشكو الزمان بنوه

وشكوتي من مكاني”!

فالزمان جيد معي، لقد ولدت في القرن العشرين وها أنذا في القرن الحادي والعشرين أي في ذروة التقدم العلمي، ولكن مكاني هو البعيد جدا جدا جدا.

 

.. على هامش اللقاء:

وصفة جمالية

تميزت لميعة عباس عمارة باهتمامها الشديد بأناقتها ومحافظتها على مظهرها الشاب

دائما، وهي تفضل استخدام الملابس الشرقية من دراعات وعباءات في كل أمسياتها الشعرية ولقاءاتها التلفزيونية.

وقد بدت عمارة التي يربو عمرها على السبعين عاما بسنوات قليلة، دائما أصغر من

سنها الحقيقي، وللوصول إلى هذه النتيجة توصي الشاعرة كل النساء قائلة؛

تستطيع المرأة الذكية أن تحافظ على شبابها الدائم وعلى جمالها بالثقافة المستمرة،

فلا شيء يعكس الجمال على العيون والفم والصوت مثل الثقافة. تبدين أيتها المرأة جميلة لأنك تتوهجين من الداخل، وكل هذا ينعكس على شكلك الخارجي، وهذا هو السر.

 

الشاعرة والنقاد:

اتسمت علاقة لميعة عباس عمارة مع النقاد بالبرود وعدم الاستلطاف المتبادلين، وإذا كانوا قد تجاهلوا تجربتها الشعرية بعدم الكتابة عنها، فإنها قابلت ذلك بالسخرية منهم والتندر عليهم.

من ذلك هذه الحكايات التي وردت على لسانها أثناء اللقاء:

 

لست شاعرة!

منذ سنوات قليلة كنت في إحدى المؤتمرات وقد صدف أن جلس بجانبي ناقد كبير كان قد حصل لتوه على جائزة نقدية محترمة، فعلم أن اسمي لميعة دون ان يعرف أنني الشاعرة لميعة عباس عمارة، فقال لي؛ هل تعلمين أن بدر شاكر السياب قد أحب سميتك؟ قلت له؛ أعرف ذلك، فقال: ولكنها لم تكن شاعرة، فقلت له؛ فعلا.. لم تكن تفهم في شيء اصلا،  قال؛ أين هي الآن؟ قلت له؛ ماتت سنة 1977.

وبعدها التفتُ إلى الشاعر سعدي يوسف، وكان يجلس إلى جانبي الآخر، وقلت له؛ لا تتفاجأ يا سعدي إذا قرأت تاريخي مغلوطا ما دام سيكتبه ناقد مثل هذا الفائز بجائزة في النقد الحديث من دون أن يعلم أنني مازلت على قيد الحياة!

حمار إذا لم يحبني!

في عام 1970 جاءني صحافي وناقد أيضا فقال لي؛ هل كنت في دار المعلمين العالية؟

قلت له: نعم،  وأنا أخمن السؤال التالي، فقال لي؛ هل كان معكم بدر شاكر السياب؟

قلت له؛ نعم. قال لي؛ وهل أحبك؟، قلت له؛  يكون حمارا إذا ما أحبني؟

 

أنت لميعة؟

وجاءني آخر عام 1974، وكنت أبدو أصغر من عمري، فسألني إن كنت أنا لميعة التي احبها السياب أو لا، فقلت له؛ وهل تصدق أنني أنا المعنية بهذه القصة القديمة؟

فنظر إلي معتقدا أن الفارق  الزمني بين عمر السياب والعمر الذي كنت أبدو عليه آنذاك لا يمكن أن يجعل مني محبوبة للسياب، فقال؛ لا لا ..لا  أصدق أنك أنت المعنية.

 

عنايون أخرى نشرت مع اللقاء:

التجديد يجب أن يكون من داخل القصيدة لا من خارجها

لجأت إلى الغزل وأنا كبيرة حتى لا أدخل السجن

رفضت طلب السياب بالارتباط بي لأنني حريصة على شخصيتي المستقلة

 

(القبس 2 يناير 2002)

 

 

 

عن Saadiah

شاهد أيضاً

د. سعاد الصباح: وُلدت وفي أعماقي امرأة لا تعرف الحذر أو الخوف

   سعدية مفرح/ 1فبراير2005: تذكرت وأنا أضع أسئلة لهذه المقابلة ما كنت قد كتبته عن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *