من بين كل تفاصيل الأخبار المعتادة حتي وهي تتوشح بالموت، وفي مثل هذا اليوم، قبل عام (21 يونيو 2001)، جاء الخبر علي خلفية وجه حلو جدا، بل لعله اجمل الوجوه التي اطلت علي المشاهد العربي عبر شاشة الفن السابع في زمنها المخاتل مابين الأسود والأبيض، ولكنه هذه المرة يجيء في زمن الألوان
مؤطرا بالسواد عبر الشاشة التليفزيونية التي تعددت وجوهها بتعدد القنوات التي اهتمت بخبر بدأ صغيرا ولكنه تضاعف مرات ومرات عندما اتخذ مداه في وجدان الناس.. كل الناس.
كان الخبر الموجز يقول بتردد من ينقل شائعة غير مؤكدة: لقد ماتت سعاد حسني..!!
‘للموت وجه علي علاته حسن’.. يقول جنون الشعر، لكن فعل الموت بصورته القدرية وطبيعته المفاجئة رغم قدريتها وضرورتها لايليق بمن يختار لحظة الموت وشكله والسبيل الذي يأتي به…
هكذا فعلت سعاد حسني ظهيرة أحد الأيام اللندنية الصيفية. بالتحديد يوم الحادي والعشرين من يونيو لعام 2001.
لقد انتحرت إذن، واختارت لموتها ذلك الطريق المفاجيء.. فهل فاجأته قبل أن يفاجئها؟ .. أما أنها اختارت لحظته ومداه؟! لقد تحدرت إليه من أعلي الطبقة السادسة في إحدي البنايات التي لايخطيء فيها المرء اصطياد لحظة موته، سقوطا نحو إسفلت الشارع قبل أن يتحدر إليها هذا الموت الذي كان يداعب فيها قدرتها علي الصمت
والسكوت وهي الممارسة جيدا للعبة الحركة وغواية الكلام، ويتحدي صبرها التمثيلي الفائق، ويقول إنه يجيء إليها.. يجيء إليها رغم الخلود الذي رفعته شعارا لفنها الذكي والجميل حيث السينما ذاكرة الحياة، وحيث الصورة ذاكرة السينما وحيث هي بطلة مثالية لسينما الصورة.
تحدرت اليه انقضاضا، قبل أن يهرب ليترك دقائق حياتها الأخيرة فرصة لاقاويل الصحف وعبارات الشامتين، وتخرصات الفاشلين، وأكاذيب المتصيدين لمواد شهرتهم من بقايا موائد الآخرين.
انتحرت سعاد حسني إذن..!!
هذا ما بدا للحظة السقوط الأولي والتي تدونت بعد ذلك في سجلات الموت والحياة رغم تشكك المتشككين فمازال التقرير النهائي عن حادث موتها طي الكتمان ولعله ضحية النقصان أيضا.
انتحرت سعاد حسني إذن..!!
هكذا كان الخبر في صورته الأولية، والتي لم تتغير الا قليلا بعد ذلك رغم محاولات المحبين وأماني العشاق والأصدقاء الأوفياء علي قلتهم وتهاويم الذين يريدون أن يأتوا بجديد عن النجمة القديمة.
انتحرت سعاد حسني!!
أشرعت في الفضاء القصير الذي يبدد الوحشة مابين الطبقة السادسة في تلك البناية المختارة كجغرافيا للنهاية الأكيدة والشارع قلوع روحها المتعب باتجاه الأسفل البليد، وقالت هي اللحظات الأخيرة وهي تهوي:
‘أريدها أن تكون هكذا’.. أو لعلها قالت، فمن يدري بتفاصيل القول الأخير لامرأة تكونت من تفاصيل راوحت مابين العلن والكتمان دون أن تقوي علي تحمل بريق العلن ولا غموض الكتمان.. وفي امتزاجهما السري.. السحري الكثير من أسباب شهرتها المدوية في آفاق عرب الستينيات والسبعينيات.
لم تكن سعاد حسني ممثلة جميلة داعبت صورتها الوضاءة وصوتها المثير وجسدها الحميم وأناقتها الشبابية وحركتها الدائمة وعيناها المغريتان وحضورها الاسر أحلام المراهقين والكبار علي حد سواء طوال أكثر من عقدين من الزمان وحسب، ولكنها كانت أيضا الحلم الأجمل من بين الأحلام الرومانسية التي وجد جيل الرومانسية الثورية في الستينيات نفسه غارقا في خضمه مسئولا عن تحقيق المستحيل فيه، متجليا في تضاعيفه ومنفتحا علي أهوائه وتصوراته المتسارعة.
سعاد حسني إذن هي الواقع المادي الجميل المتجسد علي الشاشة القريبة من الأعين، للحلم المعنوي البعيد والمستحيل والذي ظل يراود الجيل الستيني والسبعيني كله عن نفسه.
لقد كانت الصورة الأجمل للجيل، والممثل الأخف دما والأكثر شعبية عنه والنموذج الأكثر نجاحا له.
ولدت سعاد حسني في 26 يناير عام 1942 لأسرة كبيرة جدا تنتمي لأصول عربية سورية هاجرت الي مصر في بدايات القرن، حيث أصبح والدها محمد حسني البابا اشهر خطاط في مصر الثلاثينيات والأربعينيات، ولكن الخلافات سرعان مادبت بينه وبين زوجته التي تطلقت منه لتتزوج من غيره فيما تزوج هو من غيرها بالأضافة إلي ما زوجات كن قد سبقن والدة سعاد، وهكذا وجدت الصغيرة الجميلة سعاد حسني نفسها تعيش وسط أسرة كبيرة مزدوجة ومتمددة فرضت تقاليدها علي جميع المنتمين لها.
ولأن روح الفن كانت تهيمن علي محمد حسني البابا فلم يمانع من جنوح بعض اولاده نحو الفن، وكانت الأولي في الطريق المطربة الشفيفة نجاة الصغيرة، التي بدات الغناء منذ الطفولة فظلت تحمل لقبها الصغير اعترافا متناميا بدورها الفني الكبير دائما.
أما سعاد حسني فيبدو أن براعتها في الغناء والرقص، وخفة دمها، وجمالها الذي لاتخطئه عين قد رشحتها باكرا للعمل في برامج الأطفال فعملت في الكثير منها واشتهرت بأغنية صاغها واضع كلماتها استفادة من مفردات اسمها دلالة علي خصوصية الفنانة الصغيرة وحقها في استثمار تلك الخصوصية فظلت تردد كلمات تلك الأغنية حتي بعد أن كبرت.. قليلا: ‘أنا سعاد أخت القمر.. بين العباد حسني اشتهر’.
ولم يشتهر حسنها وحده بين العباد، ولكنها صارت بين ليلة وضحاها ووفقا لمقاييس الحلم السينمائي المضيء الفتاة الذهبية للسينما والتي تضمن النجاح الجماهيري لأي فيلم يظهر اسمها علي أفيشه حتي قبل أن يتحقق الجمهور من حجم وتأثير وجودها فيه، فلا يهم حجم الدور ولايهم درجة التأثير في المشاهد، بل المهم هو الأسم الأنيق رغم جرسه الشعبي والذي لم تغيره صاحبته علي عادة ممثلات السينما في ذلك الوقت.
إنها سعاد حسني..
بقوامها الفلاحي الرشيق وتقاطيعها العربية المليحة فوق جمالها الأخاذ، وعينيها الواسعتين وفمها المرسوم كالعنقود وضحكتها التي تشبه الأنغام والورود، وشعرها الأسود الغجري المجنون الذي يسافر في كل الدنيا
(هل كان عبد الحليم حافظ الذي ارتبط معها بقصة حب تحولت إلي مازواج سري وفقا لبعض المصادر الصحفية.. يغني لها قارئة الفنجان لنزار قباني بعد سنوات من طلاقهما المفترض؟!!) ،وقبل هذا وذاك ذكاؤها الفطري وثقافتها التي تنامت شيئا فشيئا علي يد مجموعة من الفنانين الذين كانوا عين الموهبة وباب الاكتشاف ومفتاح الحياة الجديدة وحراس النجاح السريع، ومن أهمهم عبد الرحمن الخميسي ومن بعده صلاح جاهين وللاثنين في حياة السندريللا الذكية قصة تكاد تكون قصة حياة هذه المرأة التي كانت في حياة كثيرين.. امرأة هي الدنيا!!
كانت البداية بعد بدايات الطفولة قد أتت علي يد الشاعر والفنان اليساري عبد الرحمن الخميسي الذي رآها بالصدفة فاكتشف بعينه الخبيرة إلي أي مدي يمكن أن تكون هذه الفتاة الصغيرة تطبيقا لاحلام الجيل كله، فأخذ بيدها نحو الشهرة المدوية عبر الشاشة الفضية حيث مثلت أول أدوارها السينمائية، وهي بطلة لفيلم ‘حسن ونعيمة’ عام 1959، قد ضمن لها نجاح الفيلم الطيب أن تستمر في رحلتها السينمائية صعودا من خلال سلسلة من الأفلام الخفيفة التي استغلت حضورها الآسر علي الشاشة وخفة دمها وقدرتها العفوية علي الرقص والغناء، فقدمت تلك الأفلام التي يتضح مضمونها من عناوينها اللاهبة مثل ‘شقاوة بنات’
و’الأشقياء الثلاثة’، و’الشياطين الثلاثة’، و ‘المغامرون الثلاثة’،
و’العزاب الثلاثة’، ‘لعبة الحب والزواج’، و ‘العريس يأتي غدا’،
‘صغيرة علي الحب’، ‘نار الحب’، ‘اشاعة حب’، ‘ليلة الزفاف’… الخ
وقد استمرت تلك المرحلة اللاهية طوال فترة الستينيات، لكن السبعينات اقترحت علي السندريلا التي نضجت كثيرا بسبب صحبتها لمجموعة من الشعراء والكتاب والمثقفين، ولأن نكسة 1967 قد أنضجت الجيل كله بسرعة شديدة وصلت إلي درجة الاحتراق.
وهكذا وجدت سعاد حسني نفسها عجينة لينة بيد مجموعة السينما الجديدة، فقدمت معهم مجموعة من أهم أفلامها وأفلام السينما العربية علي الاطلاق، وكانت بداية المرحلة مع فيلم ‘غروب وشروق’ الذي اعلن عن ميلاد نجمة جادة بعيدا عن صورتها كفتاة شقية وخفيفة الدم والهي الصورة التي احبها عليها الجمهور العربي والمفاجأة أن الجمهور احب الصورة الجديدة ايضا لسعاد حسني مما شجعها علي اعتمادها منهاجا حياتيا لها فقدمت وفقا لهذا المنهاج افلاما مهمة مثل
‘علي من نطلق الرصاص’، و’غرباء’، و’الاختبار’، و ‘شفيقة ومتولي’، و ‘المتوحشة’، و ‘زوحتي والكلب’، و’أين عقلي’
و ‘الناس والنيل’ و’الخوف’… وغيرها.
واذا كانت سعاد حسني قد أبدت كثيرا من الندم بعد أن قدمت فيلم
‘الكرنك’ عام 1975 والذي اعتبر إدانة للعهد الناصري، فإنها لم تنم علي أفلام استعراضية ناجحة جدا قدمتها في السبيعينات ومنها
‘أميرة حبي أنا’ و’المتوحشة’، لكن اشهر هذه الأفلام بل اشهر افلام السندريلا علي الاطلاق كان فيلم ‘خلي بالك من زوزو’ لقد كرسها هذا الفيلم بالذات النجمة الأولي في تاريخ السينما العربية علي الاطلاق، واكتسبت من خلاله بعضا من ملامح شخصيتها الانسانية أنها زوزو الفتاة الجميلة البريئة الشقية الناجحة رغم شقائها العائلي والتي كان علي الجميع أن ‘يخلي باله منها، وهكذا حدث بالفعل فراحت تمارس حياتها بذلك النزق الذي لم يكن يليق بصورتها الحلمية لدي شباب الوطن العربي وشاباته أيضا ( لعلها النجمة السينمائية الوحيدة التي مرت في تاريخ الشاشة العربية وحظيت بعشق مزدوج من قبل الرجال والنساء علي حد سواء…).
لكي زوزو أو سعاد حسني.. الحلم الذي بدأ صغيرا وبريئا وجميلا وشقيا ونقيا وشعبيا ومتطلعا وذكيا ونصف متعلم في نهاية الخمسينيات والذي تحول منذ منتصف الستينيات وعبر ثورة فيلمية ضخمة إلي صورة متطورة بالتدريج للحلم المتطور بالتدريج لم يستطع الهروب رغم كل شيء من مصير اصحاب الحلم. حلم شباب عربي امتلأت روحه بأحلام الثورات العربية المتعاقبة كأنها الخلاص النهائي تحت صخب الميكرفونات وخطابات الزعيم الذي كان يشبه الجميع دون أن يشبهه أحد من هذا الجميع إو كان يخاطب الجميع دون أن يقوي فرد واحد علي مخاطبته من هذا الجميع، الا وفقا للصيغة الجمعية التي تناديه خلاصا وتقترحه حلا لجميع المشكلات، وتنتخبه دون انتخابات وتشتكيه رغم كونه أصل الخصام وهو الخصم والحكم!!
لقد كانت صورة جمال عبد الناصر الحلمية تتنامي عبر صوته الرخيم الفخيم الواصل إلي انحاء الوطن العربي كله عبر إذاعة صوت العرب خطابات حماسية لا أحد يعلم بالضبط لمن هي موجهة بالفعل، وكانت صورة الآخرين الذين أنتجهم الحلم الجمعي المتنامي تطبيقا إنسانيا لهذا الصوت الناصري يتنامي أيضا عبر صورة سعاد حسني علي شاشة السينما وصوت عبد الحليم عبر ميكرفون الاذاعة وكان الاثنان النموذج المزدوج الأكثر تمثيلا لطبقات شعبية مسحوقة ومتوزعة علي أنحاء الخريطة التي تحلم بالتوحد طريقا أخيرا للوصول إلي هدف ما.
جمع بين الاثنين طموح طالع من بين شقوق الفقر واليتم والحاجة، وجمع بينهما أيضا أنهما ظهرا في ذلك العصر فصارا نموذجه وتطبيقه العملي، وجمع بينهما كذلك موهبة مبكرة أعطت أكلها بعد حين من الرعاية والتنبه لها، فكان لابد أن يجمع بين الاثنين تلك العاطفة المؤججة التي يسمونها الحب.
لكن لذاذات الحب كما يبدو كانت أكبر من أن تكون لهما مشتركا نهائيا، فصار هذا الحب لغزا يظهر بين أروقة الحفلات الخاصة ونيران الغيرة المؤججة وصفحات المجلات الفنية دون أن يقوي أي من الطرفين علي اعلانه خبرا حقيقيا وحادثا سعيدا هل تزوجت سندريللا السينما العندليب الأسمر؟.. لا أحد يدري علي وجه اليقين رغم ماتناثر من أخبار واعترافات متأخرة حول السؤال إجابة له أحيانا، وتذكيرا به أحيانا أخري.
علي ان الإجابة الدقيقة ليست مهمة علي اية حال، فقد بدأت العلاقة وانتهت علي هامش بداية رحلة الحلم ونهايتها. نهاية العندليب المبكرة والحاسمة موتا، ونهاية السندريلا البطيئة والتدريجية انتحارا.
فرغم ان سعاد حسني قدمت في السبعينيات مجموعة من أهم أفلامها علي الإطلاق، إلا أن المناخ العام كان قد بدأ بالتحول مع سياسة الانفتاح التي انتهجها الرئيس أنور السادات، وكما امتلأت السوق المصرية نتيجة لهذه السياسة بالعديد من البضائع الاستهلاكية ذات النمط الغريب علي المجتمع المصري آنذاك وهكذا سادت الاجواء الفنية نوعية من الأفلام الرديئة سميت بأفلام المقاولات، بالإضافة إلي نوعية أخري سميت بأفلام
المخدرات والعنف والراقصات وكان من الطبيعي ان تنزوي سعاد حسني علي هامش هذه السينما الجديدة..السينما الرديئة، حيث لم تقدم سوي مجموعة قليلة مهمة من الأفلام الجميلة منها ‘أهل القمة’، ‘المشبوه’،
و ‘غريب في بيتي’، و’موعد علي العشاء’، ‘القادسية’، و’حب في الزنزانة’، و’الجوع’ وتركت الساحة للراقصات واشباههن اللواتي صرن نجمات الجماهير علي حين غفلة من هذه الجماهير!!
بعد توقف قصير نسبيا، عادت سعاد حسني إلي لعبتها الأولي ومعشوقتها النهائية.. السينما، وبمزاج الخاسرين وحزن البنفسج الذي يفتش عن مساحة لبهجة الاخرين، واحساس بالفقد بعد رحيل صديق العمر الأخير الشاعر صلاح جاهين، قدمت فيلم ‘الدرجة الثالثة’ عام 1988، ولانه لم يحقق النجاح الذي كانت تنتظره السندريلا العائدة بحثا عن مجد بدا يضطرب في زمن مضطرب فقد اعتكفت مرة أخري علي احزان تكاثرت بفعل المرض الذي تسلل للجسد الجميل، ولم ينجح النجاح النقدي والجماهيري المتحفظ الذي لقيه فيلم ‘الراعي والنساء’ في اخراجها من عزلتها التي بدأت ولم يعد أحد متأكدا من رغبة محبوبة الجماهير في انهائها.. كانت تجاعيد الزمن التي تسللت للروح الأجمل وللوجه الأجمل قد فعلت فعلها، ولم يعد أمام السندريلا جدار حقيقي تتكيء عليه حيث رحل الذين تحبهم واحدا واحدا، وتركوها بلا زوج ولا ولد ولا مال ولاصحةولا أمل.. وحيدة الا من مجد سينمائي مدو وآخر انساني شفيف، وثالث وطني ظل عصيا علي كل محاولات تدجينه، فلماذا لاترحل؟!
رحلت اولا إلي لندن ولكنها صارت هناك اقتراحا دائما للشائعات الخبيثة، ومحاولات الظهور علي حساب كرامتها العزيزة.
فرحلت اخيرا إلي الموت..
‘للموت وجه علي علاته حسن’… علي اية حال
(القبس/ 21 يونيو 2002)